مقالات

أسس وضوابط العدالة الانتقالية التي تحتاجها سوريا الجديدةد. سمير حسن عاكوم \ المصدر جريدة اللواء

ظلمة من تاريخنا الحديث وتحديداً في إحدى جلسات سبعينيات القرن الماضي، جلس شاب لبناني ماروني يحمل وعياً وطنياً أخلاقياً نادراً مع ضابط علوي رفيع في جهاز المخابرات السورية. لم يكن اللقاء عادياً بل محطة حاسمة من محطات الفهم العميق لمشروع سلطة الأسد في سوريا ولبنان. قال الضابط يومها بوضوح «مشروعنا يقوم على تحالف الأقليات لمواجهة خطر الأكثريّة السنّية… يجب أن نسيطر، أن نبادر، وأن نَضرب ونفتك بهم قبل أن نُضرب أو نُكسر». لكن الشاب اللبناني القادم من بيئة امتيازات الطائفية المارونية، فاجأه بردٍّ عميق «أنتم تُراكمون الغضب، أنتم تبنون مشروع ذبح مؤجل ضدكم، أنتم تجهّزون لأحقاد لا تُمحى، القوة لا تدوم والعدالة هي وحدها التي تنقذ الجميع حتى الطائفة التي تُمسك بالسلاح الآن».
مرّت العقود وتحقق التحذير، انفجرت سوريا وتبعثرت خريطة النفوذ، ولم يبقَ من فكرة «التحالفات الساديّة» سوى واقع يتداعى فوق رؤوس الجميع أقليات كانوا أو أكثريات.
ما فعله نظام الأسد وفقاً لأرشيف السياسة والقمع، أنه حوّل الخوف إلى استراتيجية حكم والطوائف إلى أدوات سلطة لا هويات دينية ثقافية. ومنذ الثمانينات بدأت البنية تتكرّس بأمن علوي، دعم مالي لإقطاع سياسي لأقليات كبرى، تحييد الأقليات الصغرى بالزبائنية، وتهميش الأكثرية السنيّة وتشويه صورتها بالعنف والتطرف.
لكن الأخطر هو ما حصل بعد 2011، إذ لم يكتفِ النظام باستخدام العنف التقليدي لتدمير المدن والبلدات وقتل وتهجير الملايين بل بدأ بـ«اقتصاد الحرب»، وتحويل مناطق نفوذه لا سيما في الجنوب والساحل ومحيط دمشق إلى بؤر لتجارة الكابتاغون والمخدرات والتهريب. تقارير دولية موثقة على رأسها تقرير COAR وThe New York Times تثبت بالأسماء تورّط شبكات أمنية يقودها ضباط من الأقليات بشراكة مع ميليشيات محلية في شبكات ترويج تصدّر المخدرات إلى الخليج وأوروبا. التحالفات التي بدأت بوصفها «وقائية» تحوّلت إلى شبكات فساد إجرامي منظّم تتغذّى على الفوضى وتحكم المجتمعات بالسلاح والمال الأسود.
رغم سقوط النظام المجرم، رفع العقوبات الدولية تدريجياً عن سوريا والانفتاح العربي فإن السؤال الأخطر الذي يُطرح اليوم، هل يمكن إعادة الإعمار دون عدالة؟ وهل يُسمح بإعادة تمكين نخب فاسدة اعتادت على امتيازات الفساد وتلوثت أيديها بدماء السوريين؟
الجواب يتطلب شجاعة، فالعدالة الانتقالية ليست ترفاً قانونياً، بل هي شرط الإنتقال للمستقبل الواعد كما كان الحال في رواندا، جنوب أفريقيا والأرجنتين وغيرهم.
مع اقرارنا بالتجاوزات، من الخطأ القاتل تصوير العدالة الانتقالية على أنها عدالة ضد الطوائف، بل المطلوب مصالحة داخلية داخل كل طائفة تبدأ من كشف المتورطين وتبرئة المجتمع من آثام رموز المرحلة الماضيّة، حماية واحتضان من رفض المشاركة في الحرب من التهميش أو الانتقام، تحقيق شفاف في شبكات الكابتاغون التي تنخر مناطق الأقليات لأنها تُشكّل خطراً على هذه المجتمعات قبل غيرها. وصولاً لتوظيف القيم الروحية والدينية لدى هذه الطوائف من أجل مشروع إنقاذ وطني جامع والتحرر من مشروع الإنعزال الأخلاقي.
ما لا يجب فعله في مرحلة ما بعد العقوبات هو السماح بإعادة تمكين أمراء الحرب بصفتهم «قادة مصالحة»، من خلال استخدام أموال الإعمار لمكافأة الولاء الأمني، تجاهل ملفات المعتقلين، المهجّرين، المختفين قسراً، التعويض عن الجيل الذي عاش في مخيمات الجوع والبرد والخوف ولم يتعرّف على القراءة والكتابة… وكيانيته الحضاريّة والقيميّة، إعفاء الفاسدين الكبار أو المجرمين المتجاوزين مقابل شعارات «الاستقرار».
يجب أن تتحوّل سوريا شام غنى الاستثمار بالتنوّع التي نريدها من الطائفة إلى المواطن، فالطريق طويل لكنه ممكن، نريد سوريا لا تسأل ابن جبل العرب أو صيدنايا أو عفرين أو ريف حلب أو الساحل عن دينه بل عن كفاءته، سوريا لا يحكمها ضابط أو متطرف أو تاجر مخدرات بل مواطن ودولة قانون الحقوق والواجبات. لا تداوي سوريا جراحها بالتناسي بل بالاعتراف والمصالحة والإنصاف والتعويض عن حيثيات تراكم الظلم التاريخي الذي تسبب به النظام البائد على كل المستويات. لقد انتهى زمن التسويات المبتورة، نحن أمام خيارين; إما عدالة تفتح باب الشفاء والنهضة أو تسويات مشوّهة تعيد إنتاج المأساة بلباس جديد.
يجب أن نتعلّم من رسالة ذلك الشاب اللبناني الماروني الذي يؤمن بالمضي قُدماً لتحقيق أسس الدولة الحقيقيّة، والذي وقف يوماً ما في وجه من يروّج لمشروع تحالف الأقليات، حان الوقت لكي يتبنّى الجميع قوله «العدالة لا تهدّد الأقليات… بل تحميهم من أنفسهم»، فهذا التحذير لم يفت أوانه بعد، ومشروع دولة المؤسسات الراعيّة بعدالة للجميع هي ملاذ لكل المواطنين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى