مقالات

شكرا طرابلس \ كتب: د. فوزي أيوب

بعد ان وضعت الحرب أوزارها ، كان لافتا ذلك النهر المتدفق من العائدين بسياراتهم من مدينة طرابلس الى جنوب لبنان ، او الى ضاحية بيروت الجنوبية. دخل النازحون الى طرابلس بهدوء واطمئنان ، وغادروها بهدوء وامتنان، بعد ان اكتشفوا ان لهم أهلا واخوة يحبونهم في مدينة بعيدة جغرافيا عن حدود لبنان الجنوبية مع فلسطين ، ولكنها قريبة جدا منهم بالوجدان والوعي والعاطفة الوطنية.

عظيمة هذه الفيحاء بعطائها واحتضانها الراقي لمن اجبرتهم آلام الحرب على البحث عن أرض للنجاة باطفالهم ونسائهم وكبارهم، فكانت طرابلس الشام خير مكان يؤوي ويبلسم الجراح ، ويوفر الامان والرعاية للنازحين . لم تسألهم طرابلس عن طائفتهم او احزابهم او زعمائهم او سياساتهم ، بل قالت لهم : اهلا وسهلا ايها الاخوة. انتم ابنائي واهلي ، ونحن في خدمتكم.
عرفت طرابلس فعليا قبل حوالي سنتين ، من خلال عمل اكاديمي لي في جامعة الجنان ، فوقعت في حبها ، وتجولت في شوارعها وأزقتها، وزرت مواقعها التاريخية وأسواقها العامرة ، وتعاطيت مع اهلها فشعرت بالطيبة المفقودة في ايامنا ، وبالصدق والصفاء وبساطة العيش والمودة التي تفيض من ساكنيها. وعرفت لماذا يسمونها ” أم الفقير” وحاضنة الغرباء
وسائر الناس.
كثيرون من ابنائها قالوا لي ، مع بداية الحرب : بيتك موجود عندنا ، متاح لك ولعائلتك فتفضل في اي وقت. هكذا يكون أهل الوفاء والوطنية والانسانية الذين احتضنوا اهلي واخوتي ، فزاد ذلك من حبي لهذه المدينة وشغفي بها ، وتيقنت من ان لي اهلا في شمال الوطن بعد جنوبه ، وقلت لنفسي :
ما هذه المدينة الكبيرة بحجمها وبروحها الجميلة؟! ينتابني شعور غامر بانها كبيرة الى حد انها تقدر وحدها ان تضم تحت جناحيها مليون نازح او لاجى او وافد اليها!!
قبل هذه التجربة لطالما شعرت بالخجل لانني انتمي الى بلد متخلف فاشل تعشعش فيه الطائفية والفساد والتعصب الحزبي والفوضى .ولكن بفضل التجربة الطرابلسية استعيد اليوم شعور الاعتزاز بالانتماء الى لبنان الذي لي فيه أهل حيثما توجهت. وهل هي مصادفة انني اكتشفت من زمن ان اسمي له جذور طرابلسية؟! فقد سمتني امي “فوزي” تيمنا بضابط طرابلسي اسمه فوزي القاوقجي الذي قاد جيش الانقاذ العربي في خلال حرب ١٩٤٨ في فلسطين انطلاقا من جنوب لبنان ، ومنه عيناثا بلدتي ، فكان هذا الضابط بطلا عروبيا منقذا لفلسطين عند اهل الجنوب الذين احبوه ، وبعضهم سمى اولاده على اسمه ، فكنت انا واحدا من هؤلاء.
عظيمة انت يا طرابلس لان فيك ما يلزم لنبني لبنان الوطن الحضاري القوي الجميل. ومعك لا يكون لبنان بلدا صغيرا ، بل يكون بلدا كبيرا بحضارته وانسانيته.
قبل اسبوعين أصدر الصديق الكويتي المحب لطرابلس الدكتور غانم سليماني كتابا عن طرابلس بعد زيارات كثيرة اليها ، وبعد ان تعرف الى تاريخها العريق، وسعى لان تكون عاصمة للثقافة العربية. ومن خلال معايشتي لطرابلس واهلها اقول انها ليست فقط مدينة التاريخ المجيد والماضي التليد ، بل هي ايضا مدينة الحاضر والمستقبل ايضا عندما تتيسر لها وللبنان حوكمة رشيدة تعرف قيمة هذه المدينة الرائعة واخواتها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى