
الحرب على غزة بين الحصار العسكري والاحتواء الدبلوماسي بقلم: أحمد الشَّهّال
منذ نشر موقع Ynet العبري روايته حول «إجبار» حركة حماس على قبول خطة ترامب وتسليم الرهائن بوساطة تركية، كان واضحًا أن الهدف لم يكن نقل الخبر، بل إعادة صياغة الهزيمة الإسرائيلية في صورة «انتصار دبلوماسي» مُفتعل. فالرواية تُقدّم مشهدًا يُوحي بأنّ المقاومة «ركعت» تحت ضغط أردوغان وترامب، في محاولة لتغطية فشل إسرائيل في تحقيق أي حسم عسكري في غزة، وتحويل العجز الميداني إلى «إنجاز سياسي» يخدم واشنطن وتل أبيب معًا.
الحديث عن «خطة ترامب» ليس سوى توظيف انتخابي ودعائي. فإقحام اسمه في الرواية يرمي إلى ترميم صورته الداخلية وإظهاره كمن أوقف الحرب وأنقذ الرهائن، وإلى تجميل دور الولايات المتحدة كوسيط بعد أن لطّختها مجازر غزة. أما أنقرة، فتُقدَّم كوسيط «منقذ» أعاد التوازن إلى المنطقة، في حين أنّ الواقع يكشف صفقة تبادلية تقوم على رفع العقوبات وإعادة تركيا إلى مشروع طائرات F-35 مقابل احتواء حماس، أي أنّ «الوساطة» لم تكن إنسانية بل سياسية صرفة، هدفها تحسين موقع تركيا في المنظومة الأميركية.
بهذا، تتحوّل الرواية الإسرائيلية إلى أداة مزدوجة: فهي من جهة تبرّر العدوان وتُعيد شرعنته باعتباره وسيلة ضغط فعّالة، ومن جهة أخرى تحاول شيطنة حماس وتصويرها ككيان مرتبك يسعى للبقاء لا للتحرر. غير أنّ الوقائع الميدانية والسياسية تنقض هذا السرد: فإسرائيل لم تنتصر عسكريًا، ولم تستطع فرض واقع دائم على الأرض، فيما نفت تركيا وقطر وجود أي صفقة من النوع الذي يروّج له الإعلام العبري.
قراءة المشهد من زاوية واقعية تكشف أنّ ما يجري ليس نهاية الحرب، بل تحوّل في أساليب السيطرة. فبدل الاحتلال المباشر، يجري الانتقال إلى الحصار الدبلوماسي: تضييق الخناق المالي والسياسي على المقاومة حتى تُجبر على التنازل دون معركة. وهذه هي جوهر الهيمنة الجديدة: السيطرة عبر التمويل والضغوط والوسطاء، لا عبر الدبابات والطائرات.
لكنّ القبول باتفاق جزئي تحت الحصار لا يعني «الاستسلام»، بل تعديل تكتيكي يهدف إلى التقاط الأنفاس وحماية البنية الشعبية والعسكرية. فالمقاومة، بوصفها حركة تاريخية، ليست فعلاً آنياً بل مسارًا طويل النفس يتطلب توازناً بين الصمود والبقاء. وهذا ما تفشل إسرائيل في فهمه: أنّ كسر الإرادة لا يتحقق بالقصف ولا بالإعلام، ما دام الوعي الشعبي لا يزال يرى في كل هدنة استراحة مقاتل لا نهاية معركة.
أما في السياق الإقليمي، فقد أظهرت التجربة أن الخطاب التركي عن «نصرة فلسطين» يتراجع أمام منطق المصالح، وأنّ «النفوذ على حماس» أصبح ورقة تفاوض في يد أنقرة لتحسين علاقتها بواشنطن. في المقابل، تبقى قطر لاعبًا ثانويًا يستخدم أدوات ناعمة دون امتلاك قوة ضغط حقيقية، ما يعكس حدود القوة الدبلوماسية حين لا تستند إلى قاعدة صلبة.
في الجوهر، تمثل رواية Ynet جزءًا من الحرب الأيديولوجية الإمبريالية التي تسعى إلى تفكيك الوعي المقاوم وتحويل الصراع التحرري إلى لعبة صفقات بين الأنظمة، مع إخفاء طابعه الطبقي والاستعماري. غير أنّ الحقيقة أبسط وأوضح: إسرائيل فشلت، والمقاومة صمدت، وما يجري هو محاولة لإعادة صياغة المشهد في القاموس الغربي.
إنّ العقلانية الثورية لا تعني الاستسلام، بل قراءة موازين القوى دون الوقوع في فخّها. فالمقاومة ليست بطولة فردية بل منظومة وعي وتنظيم وصمود اجتماعي. وطالما بقي هناك وعي شعبي يرفض رواية المنتصر الكاذب، فإنّ الهزيمة تبقى سياسية عند العدو، لا عند من قاوم.
الحرب لم تنتهِ، بل تغيّر شكلها. والاحتواء الدبلوماسي ليس سلامًا، بل وجهٌ جديدٌ للحصار.