مقالات

الاستمناء العقلي \ كتب د. زياد منصور

أنا، في جوهري، ضد هذا النظام التعليمي المعلّب الذي يحوّل الإنسان إلى ملفّ جامد، ضد الجامعات التي تنحت المناهج كما لو كانت حجارةً على صخور، وتظلّ تكرّر نفسها حتى تتحوّل إلى متحف غبار. طالما وقفتُ في وجه الاستمناء العقلي الذي يتلذّذ به بعض الأكاديميين، وهم يلتهمون أموالاً طائلة باسم البحث دون أن يلمس أحدٌ حرارة الواقع من أوراقهم. وقفتُ أيضاً في وجه الفجوة التي صنعتها هذه المؤسسات، الفجوة بين من يملكون المعرفة الممهورة بالأختام وبين من يملكون فقط الرغبة في أن يعرفوا.

لكن… من يجرؤ أن ينكر أن كثيراً من التقدّم، من أبسط المعادلات إلى أعظم أسرار الجينات والصحة، خرج من رحم هذه المدارس؟ من يجرؤ أن ينكر أن روح المؤسسية كانت حاملاً لأحلام الأفراد، وأن مختبر العالم الكبير كان، بطريقةٍ ما، فصلاً دراسياً ممتداً بلا جدران؟

كلنا نتذكّر ذلك الصباح، حين كنا نمشي نحو المدرسة بخوفٍ من الامتحان، أو بخفقة قلبٍ لابتسامة صديق، أو بارتعاشة شغفٍ لشخصٍ نحبه ولا نجرؤ أن نسمّيه. نتذكّر الحقيبة الثقيلة التي كانت تكسر ظهورنا، ورائحة السندويش بالزعتر، أو الخبز اللبناني المبلل باللبنة أو الجبنة. نتذكّر تلك اللحظة حين نمدّ أصابعنا المرتجفة إلى جيبنا الصغير، نجد بضع ليرات ننتظر بها دورنا لنشتري كيس بطاطا مقلية في زيتٍ محلي، تعبأ في أكياس نايلون رقيقة… لا كما تُباع اليوم ببرودةٍ معدنية.

نتذكّر قاعات الامتحانات الواسعة، البرد الذي كان يتسلّل إلى العظام، وكيف كان قلبنا يتوقف عن الركض حين توزّع الأوراق، قبل أن يعود للركض ضد الزمن. نتذكّر العرق البارد حين تصادفنا مسألة مستحيلة في الرياضيات أو الفيزياء، تلك اللحظة التي يسقط فيها القلب إلى المعدة، فنخاف ألا نستطيع الحل. ونتذكّر النشوة، النشوة البسيطة حين يقول الأستاذ: “إجابتك صحيحة”.

نتذكّر يوم المطر حين كنا نلتحف أكتاف بعضنا تحت سقف الملعب، نضحك رغم البرد. يوم البَرَد حين ارتطمت حباته بالزجاج فضحكنا حتى كاد الجدار يهتز. نتذكّر الزلات الصغيرة: حبة أرز داخل قلمٍ فارغ نقذفها على رأس زميل، أو صوت الطباشير وهي تحتكّ باللوح الأخضر كأنها أنينٌ مبحوح. وذاك الغبار الأبيض الذي يتطاير حين نمسح الكلمات… كأنه ذاكرة تمحى أمام أعيننا.
نتذكّر “التابلِييه”… الزهري أو الأزرق، كعلامة على طفولتنا التي صارت الآن جزءاً من متحف الروح.

وسيأتي يوم، إن اختفت المدارس وصارت أطلالاً للزيارة، أن تُحرم الأجيال الجديدة من كل هذا: من الصداقة الأولى التي تبقى مدى الحياة، من الضحكات الجماعية، من أول قصاصة ورق نكتب فيها “أحبك” ونخفيها بين دفتي كتاب. سيُحرمون من الحواس التي جعلت طفولتنا كاملة: الروائح، الأصوات، البرودة، الانكسارات، والفرح البسيط.

ذلك كله… كان مدرسة الحياة الحقيقية. أما الباقي، فمجرّد أوراق وشهادات معلّقة على جدران بلا قلب. نحن لسنا أبناء الطاعة الصامتة، بل أبناء الارتباك الجميل، أبناء الخوف الذي صار ذكرى، أبناء تلك اللحظة التي ارتجف فيها قلبنا لأننا أحببنا أو خفنا أو حلمنا. نحن أبناء ما علق في الروح لا ما كُتب في المناهج. وإن كان لا بدّ أن تتحوّل المدارس إلى متاحف، فليكن الدرس الأخير الذي نتركه على جدرانها: أن المعرفة لا تُسجَن، وأن القلب، وحده القلب، هو المعلم الأول والأخير.

زياد منصور

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى