
أوراق الخريف ….. والمقاومة \ بقلم: عماد العيسى
في تاريخ الشعوب المقهورة، لم يكن خط المقاومة يومًا طريقًا مفروشًا بالورود، بل هو طريق محفوف بالأشواك، والدم، والتضحيات. وهو، في الوقت نفسه، الطريق الوحيد الذي يحفظ كرامة الأمم ويصون الأرض من براثن الاحتلال. لكن هذا الطريق، مهما كان مقدسًا، يظل عرضةً لرياح الخيانة، وزوابع التخاذل، وعواصف الإحباط، ومحاولات الاقتلاع من الجذور.
حين نتأمل هذا المشهد، لا يسعنا إلا أن نستدعي صورة الشجرة في فصل الخريف. في ذلك الفصل، تهبّ العواصف وتشتد الرياح، فتبدأ أوراق الشجر في التساقط. لكن ليست كل الأوراق سواء؛ فهناك أوراق صفراء ذابلة، لم تعد متصلة بروح الشجرة، فتسقط عند أول هبّة. وهناك أوراق أخرى، خضراء متينة، تتشبث بأغصانها بكل ما أوتيت من قوة، رغم قسوة الريح.
هذه الصورة الطبيعية تحمل في طياتها درسًا عظيمًا عن المقاومة. فالأوراق الصفراء الذابلة هي أولئك الذين يرفعون شعار المقاومة ما دامت الرياح ساكنة، لكنهم يتساقطون عند أول اختبار حقيقي. قد يكونون على مقاعد القيادة أو في الصفوف الأمامية، لكن ولاءهم هشّ، والتزامهم مؤقت، وإيمانهم بالقضية مشروط بسلامتهم أو بمصالحهم الشخصية. هؤلاء، حين تهبّ العاصفة، يكشفون حقيقتهم، كما تكشف الريح ضعف الأوراق التي فقدت صلتها بالجذع.
أما الأوراق الخضراء القوية، فهي المقاومون الحقيقيون، الذين لا يتزحزحون قيد أنملة، مهما اشتدت الرياح، ومهما هبّت العواصف، ومهما حاولت الأيادي العابثة اقتلاعهم من مكانهم. هؤلاء هم الذين يرون في العاصفة فرصة ليثبتوا صمودهم، وفي الشتاء الطويل حافزًا للاستعداد لربيع النصر.
إن المقاومة، كالشجرة، تحتاج في مسيرتها إلى عملية تطهير طبيعية. العواصف هنا ليست مجرد خطر، بل هي امتحان يفرز المخلص من المدّعي، والصادق من المتسلق، والثابت من الهشّ. ومع كل عاصفة، تسقط الأوراق الضعيفة، لتبقى الشجرة أكثر قوة، وأكثر قدرة على الإزهار من جديد.
ومهما حاول الاحتلال أن يستغل العواصف ليكسر أغصان الشجرة، فإن الجذور تظل ضاربة في عمق الأرض. هذه الجذور هي إيمان الشعب بعدالة قضيته، وارتباطه التاريخي بأرضه، ودماء الشهداء التي تسقي التربة يومًا بعد يوم. ولهذا، فإن أي عاصفة، مهما بلغت شدتها، لن تستطيع اقتلاع الشجرة من جذورها.
التاريخ يخبرنا أن المقاومة تمر بدورات مثل مواسم الطبيعة. هناك أوقات ازدهار، حيث تتفتح الأوراق وتملأ الأغصان حياة، وأوقات شدّة، حيث تتساقط بعض الأوراق، ويشتد البرد، وتظلم السماء. لكن دائمًا، ودون استثناء، يأتي الربيع من جديد، فتعود الحياة، وتكتسي الأغصان باللون الأخضر.
ولعل أجمل ما في هذه الدورة، أن الأوراق التي تبقى في الخريف، هي التي تهيئ الطريق لولادة أوراق جديدة في الربيع. كذلك المقاومون الثابتون في أحلك الظروف، هم من يفتحون الطريق للأجيال القادمة كي تكمل المسيرة.
إن المقاومة ليست مجرد معركة بالسلاح، بل هي معركة بالوعي، بالصبر، بالقدرة على الفرز والتمييز بين من يقف على الأرض الصلبة، ومن يقف على رمال متحركة. فكما لا يمكن للشجرة أن تزدهر إذا كانت محاطة بأوراق ميتة، لا يمكن للمقاومة أن تحقق النصر إذا كانت مثقلة بالمتخاذلين والمنافقين.
من هنا، يجب أن نفهم أن كل عاصفة تواجه خط المقاومة، مهما بدت مدمّرة، هي في الحقيقة هدية من الطبيعة السياسية، لأنها تكشف المعادن الحقيقية للرجال. قد تسقط أوراق، وقد تنكسر أغصان، لكن الجذع يبقى، والجذور تبقى، والحياة تعود من جديد.
وعليه، فإن على كل من ينتمي إلى هذا الخط أن يختار: إما أن يكون ورقة صفراء تنتظر أول ريح لتسقط، أو أن يكون ورقة خضراء تتشبث بالأغصان حتى آخر قطرة من المطر، وآخر زفرة من الريح، حتى يأتي فجر الحرية وربيع النصر.
المقاومة، في جوهرها، ليست خيارًا مؤقتًا، ولا موقفًا موسميًا، بل هي قدر وواجب، مثل الشجرة التي وُجدت لتظل واقفة، مهما تغيرت الفصول، ومهما حاولت الرياح أن تخلعها من مكانها.