مقالات

دع التفاحة و عالج االشجرة..كتب غسّان حلواني

في بلد غارق في الفساد مثل لبنان، لا يمكن “إستئصال” تفاحة واحدة من شجرة التفاح الفاسد، و ترك كل ما بقي في الصندوق. على مدار الثلاثين سنة الأخيرة، تكاد لا تخلو صفقة “مملينة” في لبنان من فساد. فساد كانت الوصاية السوريّة تغطي معظمه، و تشترك فيه. وبعيد زلزال 14 شباط 2005 و اغتيال الرئيس رفيق الحريري، خرجت القوات السورية من لبنان، في نيسان من نفس العام.
لم يتطلب الأمر كثيرا ًمن الوقت، قبل أن تتأقلم الشريحة اللبنانية الفاسدة مع الواقع الجديد. بل بحكم المتغيّر السياسي الجديد، دخلت الى “دار ندوة الفساد” شخصيّات جديدة، بلبوس الإصلاح السياسي، و راحت تتقاسم مع مجموعة الفساد القديمة، خيرات لبنان ومقدرات شعبه من أموال و مدّخرات. وصل الفساد بلبنان الى حالة غير مسبوقة، حيث طاولت يده المال العام دون أن يرفّ لمرتكبيه جفن. وجاءت “أوتوبور” 17 تشرين الثاني معرّيا ً العورة المالية من ورقة التوت، فإنهارت المصارف، و اختفت أموال المودعين، و جف ضرع الصرّافات الآلية. لكنّ شيئا ً لم يتغيّر، فقرابة النصف قرن من الرشاوي و السرقات و استخدام النفوذ، و الإستقواء بفائض القوة لا يمكن أن يزول بين ليلة و ضحاها.
في لبنان، سمّ القطاع و اكتشف فيه من الفساد ما يتحفك. فأزمة الكهرباء ذهبت بالمليارات من أموال اللبنانيين، و لم يصطلح حالها. و في الاتصالات، يدفع اللبنانيون أعلى فاتورة في العالم. و القياس في باقي القطاعات يمكن ان يبنى على ما تقدّم.
الادعاء على الفساد و مطاردة الفاسدين في لبنان، وجهة نظر، و أمرٌ إستنسابي. و يمكن أن يكون (مؤامرة مدبّرة) بين القوى السياسية المتناحرة، بل و يمكن أن يكون بين أبناء الخط السياسي الواحد، إذا ما اقتضى الأمر “كبش فداء”. لم يحصل في التاريخ اللبناني الحديث أن فُتح ملف فساد ٍ واحد ٍ ووصل الى نهاية.
صحيح أنّ لبنان ليس بلد الفساد الوحيد في العالم، و لكن هذا المرض يمكن الشفاء منه، و التاريخ مليء بتجارب ناجحة لمحاربة الفساد في العالم .
في سنغافورة مثلا ً،أنشأت هيئة مكافحة الفساد (CPIB) عام 1952، تتمتع بصلاحيات تحقيقية قوية واستقلالية. اعتمدت على الشفافية وتطبيق القانون دون تمييز، مما جعلها تحتل مرتبة متقدمة في مؤشر مدركات الفساد (المرتبة 5 عالمياً عام 2023).
و في هونغ كونغ، أسست هيئة مكافحة الفساد المستقلة (ICAC) عام 1974 بعد ثورة شعبية ضد الفساد. نجحت عبر ثلاث ركائز: التحقيق، والوقاية، والتوعية المجتمعية.
وجورجيا بعد ثورة الورد (2003)، قامت بإقالة جميع شرطة المرور الفاسدة (16,000 ضابط) واستبدالهم بجهاز جديد. ارتفعت ثقة الجمهور في الشرطة من 5% إلى 90%، وتحسّن ترتيبها في مؤشر الفساد من المرتبة 124 (2003) إلى 44 (2023).
إستونيا من جهتها، طبقت “الحكومة الإلكترونية” منذ عام 2000، حيث 99% من الخدمات الحكومية تُقدّم عبر الإنترنت، مما قلص فرص الرشاوى. تُصنف اليوم بين الأقل فساداً في أوروبا.
النرويج أنشأت نظاماً قضائياً مستقلاً وشفافاً، مع رقابة صارمة على قطاع النفط عبر “صندوق الثروة السيادي”، الذي يُدار بشفافية ويُعلن عن جميع المعاملات.
بوتسوانا: طبقت نظاماً صارماً لإدارة عوائد الألماس عبر شراكة بين الحكومة و”دي بيرز”، مع وجود هيئة مكافحة الفساد (DCEC). تحتل المرتبة 35 في مؤشر الفساد (2023).
في البرازيل حملة عملية غسل السيارات (Lava Jato) (2014-2021) كشفت فساداً بين كبار السياسيين وشركة “بتروبراس”. اعتمدت على تحقيقات قضائية مستقلة وتعاون دولي، لكنها أظهرت أيضاً تحديات سياسية لاحقاً.
رواندا، بعد الإبادة الجماعية (1994)، فرض الرئيس كاغامي نظاماً صارماً ضد الفساد، مع عقوبات قاسية وحملات توعية. تحسّن ترتيبها من المرتبة 121 (2008) إلى 51 (2023)..
و هناك فطعا ً مزيد ..
إنّ اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد (UNCAC): صادقت عليها 190 دولة، وتشمل استعادة الأموال المنهوبة (مثل حالة نيجيريا التي استعادت مليارات من أموال الديكتاتور ساني أباشا). فلماذا لا يستعيد لبنان ملياراته المنهوبة من أيدي أشباه ” ساني أباشا “؟؟
في تجارب من سبق نجد الدروس المستفادة، فلا يكفي معاقبة الأفراد، بل يجب إصلاح الأنظمة (القضاء، الإعلام، التعليم). و كذلك التكيف مع السياق فنجاح جورجيا في الإصلاح لا يعني نسخه حرفياً، بل تكييفه مع الثقافة المحلية. كما أنّ التوازن بين الصرامة والحريات مطلوب، ف بعض النماذج (مثل سنغافورة ورواندا) انتُقدت لارتباطها بسلطوية، مما يظهر أهمية الجمع بين مكافحة الفساد وحقوق الإنسان.

أفضل الطرق للقضاء على الفساد تتمثل في تعزيز المؤسسات المستقلة لمكافحة الفساد، والإصلاح المؤسساتي الشامل، والتحول الرقمي والشفافية، وتعزيز استقلالية القضاء، و المشاركة المجتمعية والإعلامية، و التعاون الدولي، والإصلاحات الوقائية. و كل ما تقدّم يحتاج الى قيادة سياسية حازمة.
أيها السّادة، الفساد كالنار، إهمال شرارة واحدة قد يحرق الغابة كلها، لذا تحتاج المعركة ضدها إلى إرادة سياسية ومجتمعية مستمرة، لا تصاريح عابرة .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى