
لا تسويات بعد اليوم: إما دولة القانون أو سقوط الهيكل
بقلم د. جيلبير المجبر
في لبنان، باتت المراوغة نهجًا سياسيًا ثابتًا، حيث تُطرح المبادرات والمصطلحات البراقة كواجهة لإخفاء الواقع المرير. فالدعوات المتكررة إلى “استراتيجية دفاعية”، و”حوار وطني”، و”مصارحة ومسامحة”، ليست سوى محاولات لإعادة إنتاج الأزمة بصيغ مختلفة، دون المساس بجوهر المشكلة: غياب الدولة الفعلية واستمرار سلاح خارج عن سلطتها، يتحكم بمصيرها السياسي والاقتصادي والأمني.
إن تكرار هذه الطروحات ليس بريئًا، بل هو جزء من لعبة مُحكمة لإبقاء ميزان القوى مختلًا لصالح أمر واقع يفرض نفسه بالقوة، بينما يُترك الدستور والقوانين الدولية رهينة التعطيل والتجاهل. فمنذ اتفاق الطائف، لم تُطبق بنوده التي تنص على حل الميليشيات وحصرية السلاح بيد الدولة، بل جرى الالتفاف عليها عبر تسويات لم تكن سوى تأجيل لانفجارات سياسية وأمنية متتالية.
اليوم، ومع تفاقم الأزمات وانهيار الدولة اقتصاديًا واجتماعيًا، يعود بعض السياسيين إلى طرح لغة التسويات وكأنها الحل، بينما يدرك الجميع أنها لم تكن يومًا إلا وسيلة لكسب الوقت وتمييع الحقائق. أما الحقيقة الوحيدة فهي أن لبنان يقف أمام خيارين لا ثالث لهما: إما دولة القانون والمؤسسات، وإما الفوضى والانهيار الكامل.
وكما أكد الدكتور جيلبير المجبر مرارًا، لا يمكن للوطن أن يستمر كرهينة للتسويات العقيمة. فإما أن يلتزم الجميع بتطبيق الدستور والقرارات الدولية، بما فيها القرار 1559 الذي ينص صراحة على حصر السلاح بيد الدولة، أو أن يُصار إلى مؤتمر تأسيسي يعيد رسم النظام برمته، وفق أسس واضحة لا تخضع لمعادلات القوة المفروضة أو المساومات السياسية التي تؤدي إلى تفريغ الدولة من مضمونها.
لكن الأخطر من ذلك هو استمرار تواطؤ بعض الأطراف تحت شعارات زائفة كالحرص على السلم الأهلي أو تجنب الفتن، فيما الواقع يُثبت أن الفتنة الحقيقية تكمن في ترك الدولة رهينة، والمواطن أسيرًا للانهيار المستمر. فكيف يمكن الحديث عن استقرار في بلد تتحكم فيه قوى خارجة عن الشرعية بقرارات الحرب والسلم، وترهن اقتصاده وأمنه لمشاريع إقليمية؟
إن محاولة الإبقاء على الوضع الحالي تحت أي ذريعة ليست سوى إطالة لأمد الانهيار، وإيغال في رهن مستقبل الأجيال القادمة. فلا كيان وطني يمكن أن يستمر في ظل دولة مشلولة، ولا اقتصاد سينتعش في ظل فوضى السلاح والهيمنة السياسية على القضاء والمؤسسات.
لا مجال للمساومات بعد اليوم. فإما قيام دولة القانون والمؤسسات، وإما سقوط الهيكل على رؤوس الجميع. والخيار الآن بيد من لا يزال يراهن على الوقت، متناسيًا أن الوقت لم يعد في صالح أحد، وأن الانهيار لا يفرّق بين طرف وآخر حين يسقط السقف فوق الجميع.