مقالات

الخيانة لا تُغتفر… والتاريخ لا يرحم \ بقلم الدكتور جيلبير المجبر

الوطن ليس ساحة لتصفية الحسابات، ولا ساحة مفتوحة لمن يظن أن القتل يمنحه سلطة أو شرعية. حين تصبح التصفية وسيلة لإدارة السياسة، فهذا دليل على إفلاس المشروع وضياع البوصلة. قد يظن البعض أن الاغتيالات تُسكت الأصوات، لكنها في الحقيقة تكشف الجبناء الذين لا يملكون سوى لغة الدم لترسيخ وجودهم.

هناك فرق جوهري بين من يواجه العدو في معركة واضحة، وبين من يغدر برفاق الوطن، ظنًا منه أن تغييب الشخص يعني إسكات الفكرة. الأول يُقاتل في ساحة معركة يعرفها الجميع، والثاني يُنفِّذ أوامر تأتيه من خلف الكواليس، بأيدٍ مرتعشة تعرف أنها غير قادرة على المواجهة العلنية. وهذا ليس سوى نموذج لخيانة متجددة، تعيد إنتاج نفسها بأقنعة مختلفة، لكنها تبقى الوجه ذاته للغدر السياسي.

التاريخ حافل بالأمثلة، لكنه لا يكرر نفسه عبثًا، بل يُسجل الأفعال بمداد الحقيقة، لا بالشعارات المزيّفة. كم من قائد جرى اغتياله لأن مشروعه لم يناسب أصحاب القرار في الظل؟ وكم من زعيم تمّت تصفيته لأنه أراد أن يأخذ الوطن إلى حيث لا يريدون؟ القاتل معروف، وإن تغيرت الأسماء والوجوه.

السلاح الذي يُرفع بوجه العدو مشروع، أما ذاك الذي يُصوَّب إلى الداخل، فهو عنوان الخيانة. من مارس التصفية لم يكن يومًا صاحب قضية، ومن صنع من الغدر منهجًا لن يصبح رمزًا مهما حاول التجمُّل. الوطنية ليست بالخطابات، بل بالمواقف، ومن يخشى الكلمة أكثر من الرصاص، فهو يدرك جيدًا أن مشروعه قائم على وهم لا يستطيع الصمود في مواجهة الحقيقة.

اليوم، يحاول البعض دفن التاريخ، وإعادة سرد الوقائع وفق ما يخدم مصالحه. لكن الحقيقة لا تُشترى، والدماء التي سالت لن تجف مادام هناك من يرويها بالذاكرة والحق. قد يتمكنون من فرض روايتهم لبعض الوقت، لكنهم لن يستطيعوا إقناع شعب بأكمله بأن الغدر بطولة، وأن الخيانة وجه آخر للسيادة.

ليسوا أبطالًا، وليسوا حماة الوطن، بل مجرد أدوات في مشروع أكبر منهم، ينفذون ما يُطلب منهم، ثم يُستبدلون بغيرهم حين تنتهي صلاحيتهم. لكن الأوطان لا تُبنى على القتل، ولا تستقيم أنظمتها على تصفية المعارضين، والتاريخ لا يرحم من خانه، مهما حاول التملص من جرائمه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى