
كولونيالية العمّ سام الجديدة …كتب غسّان حلواني
رياح السياسة العاتية لا تزال تهبّ على الشرق الأوسط، و قد جاء قرار ترامب المفاجئ في المشهد السياسي المتشابك والمتقلّب بإستعمار غزة كصاعقة هزّت أركان المنطقة، و واحدًا من أكثر القرارات إثارة للجدل والقلق و يمكن إعتباره تحوّلا ً جيوسياسيا ً يُعيد تشكيل ديناميكيات القوة في الشرق الأوسط، ويُهدّد بتفجير أوضاعٍ كانت بالفعل على حافة الهاوية مذكّرا ً بأيام الاستعمار البائد، حيث تُسلب الأرض وتُغتال الحقوق تحت سطوة القوة . و لتحليل هذا القرار بشكل أعمق ، يجب الغوص في تفاصيله السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وفهم تداعياته المحتملة على المستويين العربي والدولي، وكذلك استكشاف سُبل ردعه. هذا الزلزال يُهدّد بتغيير معالم المنطقة وتفجير صراعات جديدة ، إنّه استهانة صارخة بكلّ المواثيق الدولية، واستفزازٌ لكلّ من يؤمن بالعدل والسلام. غزة، تلك البقعة الصغيرة التي تحمل في قلبها جراحًا لا تُحصى، باتت اليوم أمام تحدٍّ جديد يهدّد وجودها وهويتها، ويُعيد إحياء ذكريات الماضي الأليم. غزة ليست مجرّد أرض، بل هي قضية عدل وكرامة، ولا يمكن للتاريخ أن يُغفر للعالم صمته أمام هذا الظلم .
قرار ترامب ليس مجرد خطوة سياسية عابرة، فهو حلقة جديدة في سلسلة الظلم التي تُحاك ضدّ الأمة العربية و الإسلامية ، و يراد لهذه أن تُعيد رسم خريطة العالم وفقًا لرؤية العم السام الكولونيالية القديمة- الجديدة دون اعتبار لكرامة الشعوب أو حقوقها.
إنّ إعادة تشكيل الخريطة السياسية يُعتبر محاولة لفرض واقع جديد في المنطقة، حيث تُصبح غزة جزءًا من مشروع توسّعي يُعيد تعريف الحدود والسيادة، بالإضافة الى إضعاف المقاومة من خلال السيطرة على غزة، ما يُمكّن من تقويض قدرات المقاومة الفلسطينية، التي كانت دائمًا حجر عثرة في وجه المشاريع التوسعية .
يريد ترامب من خلال قراره إعادة تعريف الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي ، لتكريس التطبيع بين بعض الدول العربية وإسرائيل من خلال خطة أوسع، من شأنها خلق تداعيات إقليمية تفجّر صراعات جديدة في المنطقة، خاصة في ظلّ وجود قوى إقليمية مثل إيران ، التي قد تُحاول استغلال الوضع لتعزيز نفوذها. كما يراد من هذا القرار وضع الدول العربية التي لديها علاقات مع الولايات المتحدة في موقف صعب، بين دعم القرار أو الوقوف مع الشعب الفلسطيني.
و لا يخفى على احد إرادة خلق تداعيات اقتصادية و إجتماعية على غزة وتدمير اقتصادها المحلي، هي التي تعاني بالفعل من حصار خانق، و فقدان السيطرة على مواردها وثرواتها. هذا بالإضافة الى زيادة الفقر والبطالة مما سيُؤدّي إلى تفاقم الأوضاع الإنسانية، مع ارتفاع معدلات الفقر والبطالة إلى مستويات غير مسبوقة ، تفتح أبواب الهجرة القسرية على مصرعيه. إن هدف تفكيك النسيج الاجتماعي في غزة، و تفكيك الهوية والثقافة الفلسطينية تحت وطأة الاستعمار الجديد تفوح رائحته بشكل سافر.
يبدو أن إسرائيل وجدت بشكل رسمي من يعزز مشروعها الاستيطاني وحلم توسعها الإقليمي و من يسعى بالنيابة عنها الى تهويد الأرض، تمهيدا ً لتهويد المنطقة . ولم يخف الراعي الأميركي رغبته في إعادة توطين الفلسطينيين في دول أخرى، و قد جهر بذلك بوجه مصر و الأردن و المغرب ، مع فارق بسيط هو أن الإغراءآت و التعويضات المالية سوف تكون من نصيب السكان الجدد من المحتلين اليهود ، الذين سيسكنون طوعا ً غزّة.
أمّا عن الأهداف السياسية الأمريكية يبدو أن الفكرة مغرية وولّادة لتعزيز نفوذها في المنطقة عبر دعم إسرائيل أكثر و أكثر، وإعادة تشكيل الخريطة السياسية في الشرق الأوسط وفقًا لمصالحها.
ليس غريبا ً على ترامب محاولة إرضاء اللوبي الإسرائيلي الذي يتمتع بنفوذ قوي في السياسة الأمريكية داخل الولايات المتحدة، و خطوة مماثلة من شأنه أن يخطب بها ودّ اليهود والمسيحيين الإنجيليين، الذين يُشكلون قاعدة دعم مهمة لترامب ، بعيداً عن الحسابات الانتخابية ، و في فترة رئاسته الأخيرة .
إن فكرة إفراغ غزة من أهلها تُعتبر خطوة خطيرة تتعارض مع القانون الدولي ومبادئ حقوق الإنسان. و ستواجه هذه الفكرة رفضًا عربيًا ودوليًا واسعًا، وقد تؤدي إلى تصعيد الصراع في المنطقة. و على المجتمع الدولي أن يتّخذ موقفًا حازمًا لردع هذه الفكرة وحماية حقوق الشعب الفلسطيني.
حتما ً ، الموقف العربي سيكون شأنه شأن الموقف الدولي ، رهين محبسين ، الضمير و المصلحة ، إلا إذا كان هناك (شارب حليب سباع) في الجسمين العربي و الدولي . فماذا سيكون الرد العربي و الدولي ؟
عربيا ً ، ، يقع على العرب عبءٌ تاريخي ومسؤولية أخلاقية. لا يمكن أن تبقى الأمة صامتة وهي ترى جزءًا من جسدها يُستباح. يجب أن تكون المواقف أكثر من مجرّد بيانات إعلامية أو إدانات عابرة. على الدول العربية أن تتّحد في جبهة واحدة، تُواجه هذا القرار بكلّ ما أوتيت من قوة ، والعين في هذه المواجهة على السعودية و مصر . و يجب تحريك المنظمات العربية والإسلامية في المحافل الدولية لفضح هذا القرار وكشف تداعياته الخطيرة ، بخطاب موحّد و لهجة مفهومة غير ما استعملنا على مدى عقود من مفردات البيان و البلاغة ، فلا رسالتنا وصلت ، و لا قضيتنا أنتصرت . لا بد هذه المرة من استخدام السلاح الاقتصادي لممارسة الضغط على القوى الداعمة لهذا القرار، مقاطعة ؟ نعم مقاطعة و لننظر لما حصل لشبكة مطاعم كي اف سي في تركيا و نتخذ عبرة . إن تقديم الدعم المادي والمعنوي لأهل غزة، الذين يُعتبرون خطّ الدفاع الأول عن الأرض ،لهو في عمق الضروريات في هذه المرحلة .
إنّ الانقسامات التي تعاني منها الأمة العربية هي انقسامات عميقة، تضعف قدرتها على التحرّك الموحّد.
ناهيك عن التبعية الاقتصادية لعديد من الدول العربية التي تعتمد على المساعدات الأمريكية، مما يُقلّل من قدرتها على اتّخاذ مواقف قوية. ازاء ذلك يبقى التضامن الشعبي بين الشعوب العربية التي لديها تاريخ طويل من التضامن مع القضية الفلسطينية، يمكن – الى حد ما – من خلاله تحريك هذا التضامن لخلق ضغطٍ داخلي على الحكومات. وكذلك استخدام النفوذ الدولي عبرالمنظمات الدولية مثل الجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي لرفع الصوت عالميا ً .
على الصعيد الدولي، فإنّ العالم بأسره مدعوٌّ لاتّخاذ موقف واضح وصريح. لا يمكن للضمير العالمي أن يبقى صامتًا أمام هذا الانتهاك الصارخ للقانون الدولي فالضغط عبر الأمم المتحدة عبر الدول الصديقة في الإتحاد الأوروبي و في العالم ، قد يحدث حراكا ً في مجلس الأمن لاتّخاذ قرارات تُدين هذا القرار وتُجبر القوى الداعمة على التراجع. و بلا شك نحن بحاجة الى وسائل الإعلام الدولية، تكشف تداعيات القرار الإنسانية والسياسية، لا سيما أن قرار ترمب هو انتهاك للقانون الدولي و لميثاق الأمم المتحدة واتفاقيات جنيف.
بالإتجاه شرقا ً و شمالا ً يمكن للصين وروسيا أن يستغلا القرار لتعزيز نفوذها في المنطقة، عبر تقديم دعمٍ سياسي (واقتصادي في حال المقاطعة للإقتصاد الأميركي) للدول العربية.
غزة ليست مجرّد أرض، بل هي رمزٌ للصمود والتحدّي و على العرب والعالم أن يتذكّروا أنَّ صمتهم اليوم سيكون وصمة عار في جبين الإنسانية غدًا .غزة تستحقّ منّا أكثر من الكلمات، إنّها تستحقّ أفعالًا تُعيد لها الأمل والكرامة.