
لبنان واستراتيجية إدارة البلاد من خلال الفساد في نظام الأسدالدكتور سمير حسن عاكوم
يُعتبر الفساد في سوريا في ظل حكم نظام الأسد (الأب والابن) أكثر من مجرد ممارسات غير قانونية لتحقيق مكاسب شخصية. هو أداة رئيسية للسيطرة على المجتمع، توزيع السلطة وإدارة التحالفات الداخلية والخارجية. تغلغل الفساد في جميع مؤسسات الدولة واستُخدم كوسيلة لإبقاء النخب السياسية والعسكرية والاقتصادية في حالة التبعية للنظام ووسيلة القضاء عليهم عند ارتفاع مستوى نفوذهم أو الحاجة الى ضحيّة أمام الرأي العام وامتصاص الضغوطات الدوليّة، هذا ما جعل من أي محاولة للإصلاح بمثابة تهديد مباشر لاستمرار الحكم.
قام حافظ الأسد منذ وصوله إلى السلطة بإنقلاب عسكري عام 1970 بتصميم منظومة حكم قائمة على المحسوبيات، الامتيازات والتحكم الاقتصادي. وعندما ورث أبنه السلطة عام 2000 حاول أن يظهر كرئيس إصلاحي، لكنه سرعان ما عزز بنية الفساد التي ورثها بل وأعاد تشكيلها بما يتناسب مع تحديات عصره خصوصاً بعد اندلاع الثورة السورية عام 2011.
اعتمد نظام الأسد على اقتصاد ريعي غير منتج قائم على توزيع الامتيازات الإقتصادية بدلاً من تحفيز التنمية. سيطرت الدولة على القطاعات الحيوية من نفط، غاز، إتصالات وبنوك. وبدلاً من تشغيلها بشفافية لصالح المجتمع استخدم النظام هذه القطاعات كأدوات لإثراء نُخَبَه الحاكمة وتعزيز ولاءاتهم السياسية. مَنَح الامتيازات الإقتصادية لضباط الأمن ومسؤولي الدولة. وَسَعَ بشار هذه المنظومة لتشمل «رجال أعمال الواجهة» من الذين لعبوا دور «واجهة اقتصادية» للنظام في الداخل والخارج، من أبرزهم رامي مخلوف الذي سيطر على قطاعات الاتصالات والموانئ والتجارة الخارجية، سامر فوز، محمد حمشو وغيرهم كمستفيدين من العقوبات الاقتصادية الغربية ليسيطروا على العقارات والمعابر التجارية.
اعتمد النظام على البنوك السورية لإعادة تدوير الأموال الناتجة عن الفساد، كما استخدم البنوك اللبنانية لتهريب الأموال وغسيلها خاصة بعد الأزمة الاقتصادية في لبنان عام 2019. استغل التحويلات المالية من المغتربين السوريين كمصدر مهم للعملة الصعبة بحيث تَفرض الدولة أسعار صرف غير واقعية وتحتكر قنوات التحويل الرسمية.
تحول الفساد في الجيش وأجهزة الأمن السوري إلى وسيلة لضمان الولاء الكامل للنظام. بحيث يُسمح للضباط بالانخراط في أنشطة اقتصادية غير قانونية من تهريب، فرض الأتاوات والمتاجرة بالوقود والمواد الغذائية. ليعتمد هذا النظام بيع الرتب والمناصب، لا تُمنح الترقية العسكرية بناءً على الكفاءة بل من خلال الولاء ودفع الرشاوى، أي شراء المناصب في الجيش والمخابرات. أصبح لكل منصب «سعر». ظهر خلال الحرب السورية الأخيرة ما يسمى «الاقتصاد العسكري» حيث قامت الميليشيات المرتبطة بالنظام بالسيطرة على الموارد، بيع المساعدات وفرض ضرائب على المناطق الخاضعة لسيطرتها، أصبح انتشار «الحواجز الأمنية» مصدر دخل لكبار الضباط الذين يفرضون إتاوات على التنقل بين المناطق. ليتحول الفساد المنظم آداة قمع المجتمع. وأصبح القضاء وسيلة لتصفية الخصوم والتحكم بالمجتمع. فالقضاء في «سوريا الأسد» ليس بمؤسسة مستقلة بل هو أداة في يد الأجهزة الأمنية. يتم تعيين القضاة بناءً على ولائهم للنظام، ويُفرَض عليهم إصدار الأحكام وفق مصالح السلطة وبما يسمح باستخدام القانون كسلاح ضد المعارضين السياسيين ورجال الأعمال غير الموالين.
بعد اندلاع الحرب أصبحت سوريا تعتمد بشكل متزايد على المساعدات الدولية، لكن النظام استغل هذه المساعدات عبر التحكم بتوزيع المساعدات وإيصالها فقط إلى المناطق الموالية وعبر استخدامها كورقة ابتزاز سياسي ضد المناطق التي كانت خاضعة للمعارضة. حوَّل النظام جزء كبير من هذه المساعدات إلى السوق السوداء لتباع بأسعار مرتفعة لصالح كبار المسؤولين.
اتجه النظام في مرحلته الأخيرة وبعد استعادة سيطرته على معظم الأراضي السورية إلى استغلال مرحلة «إعادة الإعمار» كوسيلة جديدة لإعادة إنتاج شبكاته الفاسدة عبر السيطرة على العقارات. أصدر النظام «القانون رقم 10 عام 2018» الذي يسمح بمصادرة أملاك المهجرين وإعادة توزيعها على موالين له. لتتم بشكل انتقائي إعادة إعمار المدن والمناطق، بحيث تُمنَح العُقود لشركات مرتبطة بالنظام بينما يتم إهمال مناطق المعارضة.
مَنَح النظام حلفاءه عقوداً احتكارية، أحتكرت الشركات الروسية قطاعي النفط والغاز، بينما أحتكرت الشركات الإيرانية مشاريع البنية التحتية، وعمد الى بيع الموانئ والمطارات الى روسيا وإيران كجزء من صفقات سياسية لضمان استمرار الدعم العسكري والسياسي.
أُستِعمِلت تجارة المخدرات كأداة للنفوذ الإقليمي. حيث تحوّل النظام إلى لاعب رئيسي في تصنيع وتجارة «الكبتاغون» وتهريبه إلى دول الخليج وأوروبا. أُستخدِمَت هذه التجارة كمصدر تمويل وورقة ضغط سياسية ضد الدول المجاورة.
استغل النظام العقوبات الدولية واستطاع تحويلها إلى فرصة لتعزيز الاقتصاد الموازي، حيث اعتمد على شبكة شركات وهمية تعمل عبر لبنان والإمارات وروسيا للإلتفاف على العقوبات. استغل عمليات إعادة الإعمار لفرض شروط اقتصادية على الدول التي تسعى لإعادة العلاقات معه مثل دول الخليج العربي.
هكذا تحول الفساد الى جزء أساسي من «استراتيجية البقاء» وأصبحت أي محاولة إصلاح سياسي أو اقتصادي حقيقي مُهَددة لوجود النظام. استناداً لما سبق فإن مسؤولية التغيير الحالي في سوريا كبيرة جداً كونها مرتبطة بإعادة هيكلة شاملة للدولة ومؤسساتها وللمجتمع بما يضمن تفكيك هذه المنظومة السرطانيّة المتجذرة بالكامل.
ويبقى السؤال الأهم، الى أي مدى استنسخت سلطة محاصصة الأمر الواقع المرتبطة بالنظام السوري هذه الإستراتيجيّة في لبنان؟ وهل حقيقي أنها نجحت بتحويل هذه الإستراتيجية الى دولة عميقة يستحيل على أي كان تجاوزها والعمل من خارجها؟ وهل سينجح العهد الحالي ورئاسة الحكومة تمرير قانون استقلاليّة السلطة القضائيّة (المقدم الى رئاسة المجلس عام 1997) ليكون هذا القانون بمثابة قاعدة تحرير النظام اللبناني من استراتيجيّة إدارة البلاد من خلال الفساد؟ وهل تمتلك هذه الحكومة ما يكفي من الحكمة والقوة والدعم الخارجي لإختراق هذه الدولة العميقة واعادة بناء مؤسسات نظامنا الدستوري وفق معايير ميثاقية مقدمة الدستور؟
لبنان وسوريا أمام مفترق مصيري وتجاوزه بنجاح يعني العودة الى ثراث حضارة الشعوب وقيمها مع ما تعنيه من صنع مستحيل «الإدارة بالكفاءات والشفافيّة» التي ستأخذ مكانها على أنقاض «إدارة البلاد من خلال فساد دولة الأسد» البائدة، ليأخذ لبنان دوره كبلد الرسالة وسوريا دور «سوريا شام التنوع والحضارة» التي تليق بشعبها المظلوم ويشتركا معاً في تحقيق التلاقي الإيجابي لتحقيق الإزدهار والأمن والأمان.