“العقول الفاخرة” والاختلاف
بكر أبوبكر
بما أنني لست من هواة تقديس الأشخاص مطلقًا، وإن كنت أكن شديد المحبة او الوفاء أو الاحترام لشخصية هنا أو هناك سواء ممن عاشرتهم أو عاصرتهم، أو ممن قرأت عنهم وخبرت سيرهم من أمة العرب والمسلمين وبمسيحيينا المشرقيين الأفاضل، لذلك فإنني لا أتوانى عن نقد موقف أو رأي أو قرار هذا الشخص أو ذاك ولا أتوانى عن استخدام جليل الكلام في النقد بمنطق الرفض بدون تجريح شخصي أو تسفيه وشتم حفلت به وسائل التبعثر الاجتماعي على الشابكة.
لست من هواة التقديس لأحد فكل كلام مردود الا كلام صاحب هذا القبر أي كلام سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم عن ربه جل وعلا.
وكلُ كلام قابلٌ للاحتفاء به، أو نقضه وردّه، بأدب الحوار والاختلاف، وهو سِمة الناس منفتحة العقل على اتساع مساحة منطقة التقبل لديهم.
العقول المنفتحة عقول تفكر.وهي عقول تتفهم وتتقبل وتتجاور بينما “العقول الفاخرة” لامعة براقة لأن أوان استخدامها لم يحِن! فهي إما منغلقة في حرم القداسة لأقوال هذا الشخص أوالحزب أو ذاك، أو انفعالية عاطفية، او مؤجرة للهوى والنزق ودعاة الفتنة والتدليس والكذب، أوبكل بساطة هي جاهلة يُرثى لها.
الصِدام وظاهر العتاب
كتبتُ في نقد مواقف من أحبهم -والحب والاعتزاز لا يمنع من نقد المواقف والآراء- كما لا يجب أن يُفهم النقدُ نقدًا لشخص أو ذات الشخص (شخصنة)، وذلك في إطار لكل مقام مقال. وفي إطار الأدب العميق المعروف به أمة العرب وفق ما يمكن أن ننقله وفهمته جيدًا مما قاله حكيم العرب أكثم بن صيفي أن “أَدْوَأُ الداء اللسان البذيء، والخُلُق الدنيء”.
في لحظة من لحظات التاريخ القريب اصطدمت بشدة مع من أحب وأقدر واعتز بالأخ عضو اللجنة المركزية هاني الحسن “أبوطارق”، مستشار الرئيس عرفات، وذلك على مأدبة غداء كان هو الداعي لي وللأخ جمال الديك فتجادلت معه في موقف لم يرُق لي مطلقًا ولربما قسوت بالكلام المباشر معه ما أزعجه-بالطبع بأدب الحوار والاحترام- ولكنه كان كلامًا مخالفًا لما اتخذه هو من موقف رآه صائبًا، المهم أن أبوطارق انزعج انزعاجًا كبيرًا إذ كان يظن أنني سأوافق على ما اتخذه من موقف فكان الحال معاكسًا، فغضِبَ كما ذكرت بشدة وبان ذلك في وجهه الجميل حين تغضّن وصمت.
ولما عدت الى المنزل توقعت أن يقاطعني-بعدم الحديث معي- في اليوم التالي إلا أنه اتصل بي لشأن محدد فذهبت الى المكتب، وما كان منه الا أن فتح الموضوع قائًلا: “كنت أنا جذريًا بموقفي وكنت أنت وسطيًا”، ثم تابعنا الموضوع الذي طلبني بشأنه! بمعنى أنه لم ينسَ اليوم الفائت وغضبه وصمته فعبّرعن رأيه المخالف لي، دون فساد للودّ. وبشكل يدل على عظمة هذا الرجل وتفهمه لمنطق الاختلاف حتى ممّن يحب ويفترض عدم الاختلاف معه.
مع الأخ سليم الزعنون أبوالأديب ممن عاشرتهم وأقدرهم وهو أيضًا عضو اللجنة المركزية لحركة التحرير الوطني الفلسطيني- فتح الذي كان له الباع الطويل برسم القوانين في إطار منظمة التحرير الفلسطينية وأعطى للكافة معنى الالتزام بالقوانين والشرعيات فترة رئاسته اللاحقة للمجلس الوطني الفلسطيني. المهم أنني اختلفت معه كثيرًا في مراحل الشباب ونفور الرأي فترة المحاولات من الفتى ليختط له مسارًا بين مئات الكوادر والقيادات البازغة، فلعله يُرى! وفي أحد الخلافات على إثر لقاء لنا مع الخالد ياسرعرفات عندما جاء الى الكويت لحل قضية معينة تكلمت بعد الأخ أبوالأديب موجهًا كلامي العاصف للأخ أبوعمار، وكنت في العشرينات من عمري ورئيسًا لاتحاد الطلاب أي أنني رأيت بنفسي التأهيل الكامل للحديث بشأن صعبٍ أيامها ما لم يعجب الأخ أبوالأديب مفترضًا أنه شخصيًا كفّى وأوفى. خرج ياسر عرفات من الاجتماع فصرخ أبوالأديب بوجهي وكان قاسيًا شديدًا. إلا أنه باليوم التالي دعاني لمكتبه وبدأ التلاوم مني لصراخه ومنه لمواقف انعزالية كنتُ قد قمت بها دون اهتمام، وانتهى الامر عند حد ذلك. فكان الأمر كما قالت العرب “ظاهر العتاب خير من باطن الحقد”.
هجوم الكوفية ونسيمها
مع ياسر عرفات حصلت ملاسنة بينه وبين أحد الأصدقاء من زملائي في كلية الهندسة وانتبه ياسرعرفات أن صديقي المهندس العزيز قد عارضه بقسوة وشدة –أي عارض الموقف-فما كان من الخالد ياسرعرفات الا أن هجم عليه صارخًا بشدة، ولما تمضِ دقائق معدودة حتى ناداه واحتضنه وقبّله!
ولا يغيب عن ذهن الكثيرين عندما دخل أبوعمار جامعة النجاح في نابلس بهيبته الطاغية، وعظمة كوفيته شعار فلسطين التحرري الثوري، وقدم اعتذاره العلني عن بعض ممارسات من أساؤوا للطلاب من قواته.
مغلقو العقول، أومؤجرو عقولهم والمتخذون للموقف المسبق الى الأبد بكراهية أو احتقار شخص ما، يشتمونه حتى لو وصل السماء بما يقول أو يفعل!؟ وفي نموذج خطاب الرئيس أبومازن الايجابي بالنبرة العرفاتية في البرلمان التركي (15/8/2024م) حيث رأيت ردود أفعال الحزب “س” وأتباع الفضائية “ص”، ورغم كل شيء لم يتخلوا عن رذيلة الشتم والتعهير والسخرية!؟ وهؤلاء من قال فيهم علي بن أبي طالب (رض) “الهمج الرعاع”. وهم أمثال من قال المولى عز وجل بهم “صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ”
كل هذا الكلام لأقول أن نقد موقف الآخر اليوم بالمعنى الرافض لرأيه أوموقفه، لا يعني عدم الاتفاق معه غدًا بموقف آخر، والا لكان الشخص قد تحجّر وتكلس أو أجّر عقله لمن يلوح به من هنا أو هناك من الأحزاب وفضائيات الفتنة التي تتباهى بجمع العقول الفارغة الفاخرة اللامعة التي تقدّر بالملايين!
Baker AbuBaker
writer & author
Palestine-Ramallah