فن

السيد البدوي مابين

البكاء والضحك بالأمس واليوم

بكر أبوبكر

هناك القليل من الكتب التي تجعلك تبكي، ومنها القليل الذي يجعلك تضحك، والكثير منها الذي قد يثير فيك التعجب أو الدهشة أو الاستياء في مواضع.

وفي الكثير من الكتب قد تجد الملل والجفوة والرغبة في تمزيق الكتاب. ولكن أن تجد كتابًا يثير فيك الكثير من الأفكار، ومن الأحاسيس المتناقضة الكثير فهو لا شك سيكون كتابًا متميزًا ويشجع على متعة القراءة في ظل انكشاف أمر الكتاب الذي بات لا يشكل أي جاذبية أو تأثيرًا خاصة للقاريء العربي للأسف، لاسيما وأن سنوات الشابكة ومواقع التواصل الاجتماعي والتطبيقات الناشئة وعديد المقاطع المرئية قد قضت أو توشك أن تقضي على فكرة القراءة العميقة التي تجمع ما بين الفهم والمتعة معًا.

مقدمة

من الكتب التي أحاطت بي من كل الجوانب، تلك في زمن القراءة المتفحصة فترة الجامعة وما قبلها وتلك التي بعدها وهي كثيرة، وقد أفرد لها مقالًا آخر إن قدر لنا المولى عز وجل ذلك.

أما ما كان من مراحل قريبة فيمكنني ذكر مجموعة من القصص التي اتخذت من المسار التاريخي حجّة على الواقع وبرسائل شتى، ومنحتني الاحساسيْن المتضاربين بين البكاء والضحك وهي كالتالي

رواية الحرب الصليبية لأمين المعلوف

كتاب التطهير العرقي لإيلان بابيه

رواية المخطوط القرمزي، يوميات أبى عبد الله الصغير آخر ملوك الأندلس لأنطونيو غالا

رواية قناديل ملك الجليل للمؤلف إبراهيم نصر الله

ومؤخرًا وما سأتحدث عنها رواية الصوفي والقصر سيرة ممكنة للسيد البدوي.

لماذا أقول يُضحك ويُبكي لأن مجموع التناقضات المثارة داخل الكتب المذكورة ما بين التاريخ وتشابه أجزاء كثيرة منه مع الواقع المُعاش والتفكير بما مضى بعقلية اليوم أو العكس، والنظر من زوايا ما فهمناه لاحٌقا عندما بحثنا وقرأنا وأدركنا يجعل من النظر في الكتب ذات الاطلالة التاريخية الحكيمة أعلاه ذات أهمية تفوق حقيقة السرد أو القص كما في التطهير العرقي أوالقصة والرواية في الباقي.

من “الملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ” الى د.أحمد رفيق عوض

كتبت كتيبًا حول زمن الرويبضة الحالي، وحالة التتبيع للإسرائيلي (هو ليس تطبيع قط، وإنما استتباع وتتبيع للمهيمن الصهيوني) متسيدًا للمنطقة منذ صدم الرئيس الامريكي المختل “ترامب” العالم بطروحاته والتي منها صفعة العصر أو القرن عام 2019م والتي أفشلتها فلسطين والاحرار.

ثم أعدت اليوم في عام النكبة الثانية و(مجزرة صبرا وشاتيلا اليومية) في قطاع غزة للعامين الكئيبين 2023-2024م الإضاءة على جزء من الكتيب -المتعلق بشخصيات سجلها التاريخ في قائمة المفرطين- وذلك تحت عنوان: “الملك السعيد” وبدرالدين لؤلؤ ! وهما شخصيتان مثاليتان بالعمل الحثيث للحفاظ على السلطان والهيلمان والأنا العليا على حساب الأرض والأمة وعلى حساب الشعب الذي ما هو الا فداء للملك أو الأمير أو الإمام أو القائد!

نشر المقال جاء في خضم عدوان صهيوني شرس ضد فلسطين من بوابة غزة أولًا ثم من بوابة الضفة الغربية وضد الانسانية جمعاء واتصل بي عدد من الأخوة يستفسرون عن الشخصيات التاريخية المذكورة باستثناء المفكر والأديب والروائي د.أحمد رفيق عوض الذي أشار لضرورة قراءة كتابه المعنون: الصوفي والقصر سيرة ممكنة للسيد البدوي.

كان إصرار الأخ أحمد رفيق عوض على أن أضع أولوية قراءة كتابه/روايته الصادر بطبعته الأولى عن دار الشروق عام 2017م في محلّه-ما اكتشفته من قراءة الكتاب لاحقًا- ليس فقط لورود الاسمين في مقالي في سياق روايته، وإنما لأنهما وشخصيات وأحداث وحوارات أخرى بالكتاب شكلت مفتاح التواصل للنظر المشترك في عصر المحن والفتن والنكبات التي مرت على الأمة إبان “السيرة الممكنة” أو المحتملة “للسيد البدوي” التي تلتقط منها الكثير المتشابه من سلوكيات وأفكار ومضامين وأحداث وتأملات ومقارنات ذات صلة بالواقع المزري اليوم.

لم يكن المتسمي الملك الرحيم رحيمًا، ولا كان الملك السعيد مهتما بسعادة شعبه، كما الحال مع ملوك وامراء وقادة وأئمة كُثُر جال عوض بالحديث عنهم في خضم كتابه المؤلم والمحزن من جهة ما سطّره من مواقف يندى لها الجبين من جهة.

ولكنه المفرج من جهة حين الإشارة لأدوار المفكرين والدعاة وقيادات المجتمع والمثقفين بأفكارهم وأنوارهم ونزعتهم الإيمانية والتحريضية على العمل وبذات الوقت التفاؤلية والذين كان منهم على سبيل المثال في الرواية العز بن عبد السلام والسيد أحمد البدوي وعبدالقادر الجيلاني، والإمام الغزالي….

سأحاول الإشارة لبعض المفاهيم التي لفتت نظري من الرواية الجميلة بحق من حيث السبك والعرض.

فالكاتب واحد من أهم كُتاب الرواية في فلسطين في ظني، ولربما في العالم العربي أيضًا إن جاز لي أن أضع أسماء كل من يحيى يخلف، و وليد أبوبكر وابراهيم نصر الله في سياق الكبار ممن قرأت لهم بالرواية وربما آخرون ممن لم أسعد بالإطلاع على رواياتهم لتقصير مني.

رواية ومفاهيم وأفكار

الفكرة الأولى هي الاستعراض التاريخي القصصي من خلال رواية محتملة لجولة السيد المتصوف أحمد البدوي عبر الأمصار والبلدان، وما رأى فيها من تنوع سواء في البيئة الطبيعية وحياة الناس أوفي طريقة العيش والتعبير عن كل بلد أو فئة اجتماعية ما يأسرك ويلزمك بالمقارنة ما بين بغداد وحلب ونابلس والموصل وغزة ومكة ومصر وغيرها اليوم وبالأمس. فأحوال الناس متغيرة وبلدانهم ثابتة المكان والهيئة العامة أبد الدهر مهما تتابع عليها من الغزاة أوالفاتحين، أوالأشرار والعظماء الكثير.

أما الفكرة الثانية فكانت بالنسبة لي هي مساحات الحوار الشيق بقلم المؤلف وروحه بين العقول حيث يدخل فيها الصوفي المعروف-والمختلف على سيرته وتصنيفه بكتب التاريخ-السيد أحمد البدوي الذي استقر به المقام أخيرًا في طنطا من مدن مصر، وبين الآخرين ممن توافقوا مع حاله أو اختلفوا، ما يجعل من الاطلاع على هذه الحوارات في الكتاب وهي ممكنة اومحتملة بقلم الكاتب ضرورة لمن يبتغي النور والضياء أو التعلم وأخذ العبرة.

الفكرة الثالثة كانت الاطلالة على حجم الصراع الفكري والقيمي و”علم القلب وعلم الكتاب”، والخلاف والاختلاف بين السلطة أوالسلطان والحكم وأهله من جهة. وبين أهل الرأي والعقل مقابل أهل البرهان أو الباطن والعرفان والروح من الدعاة المؤمنين والمصلحين والصوفيين أو بالتعبيرات الحديثة “المثقفين”، وما يخالط هذا التنازع أو الصراع من تقبل أورفض وجدال وحوارات ونقاشات مضنية قد تُفضي لتوافقات أو منازعات وربما أحقاد واتهامات. ولكن بجميع الأحوال حين المقارنة مع عصور الظلام الوسطى لدى الأوربيين آنذاك فإنها تمثل حقبة زاهرة ومفرحة من حقب الأمة العربية والاسلامية في هذا الجانب. أما مع واقع اليوم فهو المبكي هنا.

الفكرة الرابعة هي حجم الاحتراب والاقتتال والعداء بين ممالك وإمارات و”دول” الأمة وزعمائها في ظل أحذية عساكر الأجنبي الغازي والمحتل للديار من الفرنجة والتتار، والذين بدلًا من الوحدة المفترضة “الممكنة” في وجوههم كانت نزاعات الملوك (في العراق والشام أساسًا بالرواية) والفتن والفساد والإفساد هي ما يواجهون به الغزاة ومن خلال التحالف مع هذا المحتل أو ذاك الغازي وضد بعضهم البعض ما يجدون له كثير تبرير.

وهنا يتعملق الحزن، ويكبر الفرح أيضًا! فلربما تكون قد اكتشفت أن الجديد له قديم! فلا تيأس وكُن متفائلًا، فلك الأسوة السيئة المطلوب منك أخذ العبرة منها وعدم تكرارها!

لا يغرنّك عظمة الألقاب التي لا معنى لها مثل الملك الأشرف والملك الكامل والملك الصالح والملك الرحيم والملك المعظم والخليفة الناصر…الخ، فمنهم من لا يملك من أمره شيئًا أوهو “خيال مآتة” كما يقول اخواننا المصريون بالعامية، ومنهم من تحول لألعوبة النساء أو الغلمان والخصيان (أنظر المغنية دلال والأخرى وصال والمخنث باسم في قصور بغداد) أو الأجانب داخل القصر. ومنهم الذي أعاد تسليم القدس للفرنجة فداء لملكه، بعد أن افتكها عمّه صلاح الدين الأيوبي بسيفه، ومنهم من ترك مملكته لهم يصولون ويجولون بين شوارعها ومحلاتها وبيوتها والأزقة فهي ألقاب مملكة في غير موضعها، أو كما قال علي الحصري القيرواني: مِمّا ينغّصُني في أَرضِ أَندَلُسٍ/سَماعُ مُعتَصِمٍ فيها وَمُعتَضِدِ.

أَسماءُ مَملَكَةٍ في غَيرِ مَوضِعِها/كَالهِرِّ يَحكي اِنتِفاخاً صَولَةَ الأَسَدِ

الفكرة الخامسة: هي الدعوة التي قدمتها لي الرواية بالبحث عن كل أمر تم ذكره عرضًا أودون تفصيل ما أشعل بي ملكة حب البحث والتمحيص والتدقيق فيما لم أكن أعرفه سواء من أفكار أومن شخصيات أو من وقائع أو حتى كلمات قديمة يعيد استخدامها بالسياق، ومصطلحات (أنظر مثلا ما تعلق بمن لم أعرفه جيدًا مسبقًا مثل: ابن سبط الجوزية، والبساسيري وفتنته في بغداد داعيًا للخلافة العبيدية الفاطمية، وأنظر السبتي الزاهد، والشيخ أبومدين من المغرب، وفكر الشيخ الغزالي….والاميرة فاطمة بنت بري، وركن الدين ابن شحيط، والشيخ العز بن عبدالسلام الخ من قادة الفكر والرأي أو المتصوفة، وأنظر مفهوم الرِباط كموقع أوزاوية صوفية، ورباط الشيخ الرفاعي في قرية أم عبيدة……)

الفكرة السادسة حيث استوقفني من الحديث أو الحوار الروحي خاصة ذو المضمون الفلسفي، أوالخيالي أوذاك القيمي أيضًا، وخاصة في سياق استعراض مفاهيم مثل: النور أوالرعاية والذِكر أوالحب أوالرحمة ومعاني الشطحات وقوة الأوهام مقابل الحقائق.

“فكل من لا تشمله رحمة الله فهو جائع وفقير ومطرود”، و”عمّر قبرك أيها الأمير”، و”الغلظة على أهل المعصية رحمة، وتقريع المخطيء تطهير له”، و”الذكر يعني استحضار الحبيب والتقرب اليه، كيف يمكن استحضار الحبيب والانشغال عنه!؟”.

و”المحبة أساس المعرفة، واغتسال من الدنيا وما فيها، والمحبة عُري كامل..المحبة استسلام كامل للمحبوب”. و”محبة الله حرية القلب والعين والبدن، ولا تكتمل المحبة الا بالحرية، حب الله خيارالانسان، ولهذا كان ثواب المحبة ثوابًا عظيمًا….”.

و”الرحمة غامضة لأنها واسعة، والرحمة لا قرار لها لأنها بلا حد ولا سقف…”. و عن تذوق جمال الخلق والخالق يقول ب”ضرورة التدرب على التذوق وصولًا الى الصفاء، وهذا لا يتم الا بالمداومة.

وحين النصر الاسلامي المصري على الفرنجة فإن “ليس هناك ما يشبه النصر”.

شكرا للدكتور أحمد رفيق عوض على هذه الرواية-التحفة الفنية التي أثارت الشجون وبواطن الاحزان الحالية التي ظهربوضوح أن لها تاريخًا أسودًا، وشكرًا له أن أسعدنا بإشارات بيضاء منيرة لا تخطئها العين نحو الأفضل.

Baker AbuBaker

writer & author

Palestine-Ramallah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى