متفرقات

الاعتراف بالخطأ أول طريق التصحيح

بقلم :الدكتورة مني سالم محمد مدرس الفقة بكلية الدراسات الإسلامية والعربية بنات بالقليبوية

النفس البشرية في الأساس هي نفس قابلة للإصابة والخطأ بنسب متفاوتة من شخص لآخر ، وهذا من طبيعة تكوينها، يقول الله تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} (سورة: البلد، آية:10)، أي: طريق الصواب، وطريق الخطأ، كما ورد في تفسيرها، وقيل طريق الهدى والضلالة. وإنما سمّى تعالى هذين الطريقين بالنجدين ، لأنه بيّنهما للمكلّفين بيانا واضحا ليتّبعوا سبيل الخير ، ويجتنبوا سبيل الشر. فكأنه تعالى بفرط البيان لهما قد رفعهما للعيون ، ونصبهما للناظرين.
والإنسان حين يخطىء إما أن يقع في الخطأ سهوًا أو عن جهل دون تعمد، وهذا النوع معفو عنه غير مؤاخذ عليه، كما قال نبينا الكريم – صلى الله عليه وسلم- : «إِنَّ اللَّهَ قَدْ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ، وَالنِّسْيَانَ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» وما تجاوز الله عنه فلا وزر عليه.
وإما أن يقع فيه مختارًا عن قصد وتعمد، وهذا النوع هو محل المؤاخذة والحساب كما يقول تعالى في كتابه الكريم: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } [الأحزاب: 5]، وعلى من وقع في الخطأ مختارًا قاصدًا أن يعود إلى الصواب، وأن يتدارك ما وقع فيه من الخطأ في أسرع وقت، فإن كان الخطأ في حق الله، فيكفيه الندم على ما فات، والتوبة مما قد صدر منه، والعزم على عدم العود، أما إن كان في جانب العباد، فيزيد على ما تقدم رد الحقوق لأصحابها، ولا تبرأ ذمته إلا بذلك، فمثلاً من سرق مالًا لإنسان فلا يكفيه في تصحيح الخطأ الندم والتوبة والعزم على عدم العود إلى السرقة ثانيًا، بل لابد من رد المال المسروق لصاحبه حتى تبرأ ذمته أمام الله، ولا يكون لصاحب المال الحق في المطالبة بحقه.
والاعتراف بالخطأ من شيم الأنبياء والصحابة والصالحين، وإذا حصل من أحدهم تجده مسارعًا إلى تصحيح ما بدر منه، راغبًا فيما عند الله من جميل العفو وحسن الثواب على العائد من ذنبه وخطأه.
فها هو سيدنا ءادم عليه السلام حين أكل من الشجرة التي أمر بعدم الأكل منها، ناسيًا نهي ربه من الأكل منها، ما كان منه إلا أن ندم على فعلته متوجهًا إلى ربه بالاعتراف بذنبه طالبًا منه العفو والصفح والغفرآن، يقول الله تعالى حاكيًا عنه ما حدث: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [الأعراف: 23]، فما كان من الله تعالى لما رأى صدق توبته، إلا أن تقبلها منها وقربه إليه وهداه، يقول تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 37]،
وعلى الجانب الآخر لما تمادي إبليس في عصيانه رافضا أمر ربه بالسجود لآدم- عليه السلام- ، متوعدًا ءآدم وذريته بغوايتهم، ولن يترك في سبيل ذلك وسيلة إلا ويتفانى في استخدامها ، وما دفعه لذلك إلا عناده واستكباره عن تدارك خطأه، فكان جزاء الإصرار على الخطأ مناسبًا لفعله، وهو الطرد والإبعاد من رحمة الله ، يقول الله تعالى: { قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ } [الأعراف: 18].
نخلص من هذا أن الاعتراف بالخطأ لا يأتي إلا من نفس سوية كريمة، متصالحة مع نفسها، قد تنائت عن الكبر، ولا ترى غضاضة في أن تعترف بالخطأ إما اعتذارًا عنه، وهذا يتضمن عدم التكرار إلا غفلة أو سهوًا، وإما بالوقوف عليه ومعرفته لاستدراكه ومحاولة تصحيحه.
كما أن الاعتراف بالخطأ هو أول خطوة لتجنب الوقوع فيه مرة أخرى، وهو نصف العلاج لأي مشكلة، ومن ثم تبدأ مرحلة التحسين وإيجاد الحلول للخروج بنتيجة مختلفة عن التجربة الأولى، وهذا له جميل الأثر على مستوى الفرد نفسه، ثم على محيطه من أهل وأسرة وأصدقاء ومجتمع، بل يكون على مستوى المجتمع ككل. فهو يحسن العلاقات بين الأفراد، ويقيمها على أساس من المسؤولية، ومراعاة حقوق الآخرين، مما ينأى بها عن التقاطع، كما أنه يساعد في تجويد تجربة الحياة، ويدفع بها نحو الترقي، الأمر الذي يؤدي إلى رقي الأمم وتقدمها.
فعلى المستوى المعيشي نجد أن الاعتراف بالخطأ يجعل الشخص دائما مواكبًا لحركة الحياة؛ لأنه يظل يحاول ويحاول، ويعلم أن الخطأ من سمة المخلوقين، فلا يقف عاجزًا خائفًا من المحاولة، حتى يصل إلى الصواب، ولا أدل على ذلك من التقدم التكنولوجي وثورة المعلومات وجودة الصناعات في مختلف المجالات، ولا يخفى على ذي عقل أنها بدأت على غير الحال الذي وصلت إليه، ولا تزال في الترقي والتقدم ما دام العقل البشري يمعن فيها التأمل والفكر ويتبعها بالعمل ولو وقع في الخطأ ما أثناه ذلك عن هدفه إلا أن يحاول من جديد ليصل إلى ما يريد .
وقد حثنا النبي-صلى الله عليه وسلم- كل في مجاله إلى ضرورة السعي والمحاولة مرار وتكرارا، وإن أخطأنا وتعثرنا، ولا نجعل التعثر مانعا من المواصلة وذلك حين حث المجتهد في العلوم الشرعية المستجمعًا لشروط الاجتهاد، على ضرورة النظر في الأدلة الشرعية لاستخراج الأحكام المناسبة لما يستجد لهم من القضايا وما يعرض لهم من النوازل التي يحتاجون إلى معرفة حكم الله فيها، ليظل المسلم على بصيرة من دينه ولا يسلك غير سبيل المؤمنين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
فجعل للمخطأ في طلب الحق أجر ؛ لأن اجتهاده عبادة ؛ ولا يؤجر على الخطأ، بل يوضع عنه الإث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى