بكر أبوبكر
الأجسام الموازية لا تنجح بالحلول مكان الأصل، ولكنها تنجح بتوسيع شقة الشرخ. وهكذا هو الأمر مع كل دعوات أو تحركات استبدال منظمة التحرير الفلسطينية عبر تاريخنا الوطني.
إن كان لنا من إطلالة تاريخية فهو على نشأة وتأسيس الحركة الصهيونية ممثلة بالمنظمة الصهيوينة العالمية التي تم تأسيسها استكمالًا وليس بدءًا لمخطط طويل استخرابي (استعماري) بالمنطقة، لكنه وجد ضالته بالمنظمة التي تولت قيادة المشروع وهو ما حصل.
الصهيونية والاعتراف أولًا
في قيادة المنظمة الصهيونية ورغم الانشقاقات التي حصلت بها لأسباب عديدة ذكرها المنشقون، إلا أنها في فترات الضعف ثم القوة ظلت محافظة على مكانتها وحتى مع موت هرتسل، حتى حققت قيام دولة “إسرائيل” على أرض فلسطين بفضل جهود سنوات طوال، وأمم وحكومات وما كان من أمر حاييم وايزمان (أول رئيس للدولة).
قال “حاييم وايزمان” أننا حققنا الدولة بشيئين هما الاعتراف العالمي، والقوة.
والاعتراف العالمي بالمسألة اليهودية ثم الصهيونية و”الوطن القومي” سبق الدولة وبجهود لم تهدأ، وارتبطت بالقوة بكافة معانيها العسكرية والحلفاء المخلصين والاقتصادية والتقانية (التكنولوجية) الخ.
لم تنجح حكومة عموم فلسطين التي أعلنها الحاج أمين الحسيني عام 1948 حيث تم وأدها في غزة، وقامت منظمة التحرير الفلسطينية لتحقق شرطي وايزمان أي الاعتراف العالمي، وبالقوة تمامًا، فهل كان ياسر عرفات قد قرأ تاريخ الحركة الصهيونية وآباءها ومنهم المؤسس وايزمان وبن غوريون وغيرهم؟ نجزم أن هذا حصل فيما علمناه من تاريخ الختيار وقراءاته بالمراحل المبكرة (أنظر كتاب نانسي دوبرو المعنون: ياسر عرفات متى لم يكن هنا؟)
ياسرعرفات والوطنية والوحدوية
حقق الختيار ما لم يستطع أي مناضل فلسطيني قبله أن يحققه فهو من حقق إعادة بعث وتهيئة ونشر الوطنية العربية الفلسطينية التي سرعان ما أصبحت مدماكًا يستند عليه في مواجهة المشروع الصهيوني وادعاء الضعف بمواجهة اكثر من 20 دولة عربية ليس للفلسطيني من وطن الا عندهم.
وحقق ياسر عرفات بدخول حركة التحرير الوطني الفلسطيني-فتح ثم كافة الفصائل لمنظمة التحرير الفلسطينية شرعية ووحدانية التمثيل الفلسطيني بالمنظمة-رغم كافة محاولات الانشقاق الاقليمية اللاحقة عليها- فكان “الوطن القومي” أوالوطنية المتجددة، وكان التمثيل والاعتراف العالمي على مسيرة بدأت بالفلسطينيين لتنتهي بالعالم (ابتداء من خطاب أبوعمار عام 1974، ثم باعلان الاستقلال والاعترافات العالمية عام 1988، ثم 2012 وفلسطين عضو مراقب، ثم بتاريخ 10/5/2024 ودولة فلسطين عضوا كامل العضوية حسب قرار الجمعية العامة.)
ياسر عرفات الذي حقق الوطنية، بإعادة البعث ثم الكيانية بالمنظمة حاضنة الدولة هو ذاته ورفاق دربة والمقاومة الفلسطينية بكل فصائلها ضمن المنظمة الذي أكمل النقطتين السابقتين متحللًا من المحاور والارتباطات الخارجية واحتواء أو كسر الإرادة الفلسطينية باستقلالية القرار الوطني الفلسطيني، ولنضف والديمقراطي التشاركي الموحد (الوحدة الوطنية) حين واجه كل عواصم الاحتواء بلا هوادة.
التنفيذية بمواجهة “التحضيرية”
في الأيام القليلة الماضية ظهرت دعوة لعقد ما سمي (المؤتمر الوطني الفلسطيني) استنادًا لوثيقة وطنية تدعو لتفعيل إطار منظمة التحرير الفلسطينية، وفي جملتين من ورقة بنصف صفحة فقط حددت اللجنة التنفيذية للمنظمة رفضها للمؤتمر-وان لم تسمّه صراحة- ومَن خلفه، بعبارت قاسية ومؤسفة إذ قالت: “تخرج مجموعات مدعومة وممولة من جهات إقليمية تحت مسميات وطنية في محاولة يائسة لتشكيل أطر موازية، وبديل عن منظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها الشرعية المنتخبة.”
مضيفة بالقول: “وأدانت اللجنة التنفيذية، هذه المحاولات المدسوسة ومن يقف وراءها ويمولها، محمّلةً الجميع مسؤولياته”.
ولم يتأخر الرد القاسي والمؤسف أيضًا من (اللجنة التحضيرية) لما اطلق عليه في موقعها على الشابكة (المؤتمر الوطني الفلسطيني) إذ تهكمت على -ما أسمته صراحة- بيان التنفيذية، وبيان حركة التحرير الوطني الفلسطيني- فتح (الذي لم نعثر عليه بالموقع الرسمي للحركة)، قائلة أن البيانين “متطابقين، وكأن شخصًا واحدًا صاغهما”!
وفي إطار رفضهم لتهمة أنهم مدسوسين، وممولين إقليميًا، قام السادة (اللجنة التحضيرية للمؤتمر الوطني الفلسطيني) بتوضيح موقفهم وتشكيلتهم…الخ، فإن داخل بيان رد التهمة مما يؤشر على خط فكري محدد، وما قد لا تُحمد عقباه ومنذ البداية في إطار شكل الحوار وأدب الاختلاف والممارسة الديمقراطية والوحدة الوطنية.
1- أشاروا في البيان أنه: “يفضل أن تتشكل هذه المرجعية السياسية في إطار منظمة التحرير في الطريق نحو إعادة بنائها”، ما يعني ضمنًا إن امكانية وجود أو خلق مرجعية موازية أو بديلة لمنظمة التحرير الفلسطينية واردة لديهم.
2- ونحن إذ نرى أن أعضاء (اللجنة التحضيرية للمؤتمر) رفضوا ما أسموها: “الحملة التشهيرية المستهجنة وغير المبررة، وبهذه اللغة العصبية”، ليشنوا هم بدورهم بالجملة اللاحقة مباشرة ذات الحملة حينما (اتهموا) مصدري بيان التنفيذية أو ورقتها وبلغة عصبية أيضًا أنهم: “يفضلون التنسيق الأمني و”التزامات أوسلو” على الوحدة الوطنية.”!
3- أقر كاتبو بيان الرد بعقلية الفصل بين المناضلين والمقاومين والثوار متهمين من هم ضدهم بالعداء للثورة أو المقاومة ضمن نصّهم الواضح بالبيان حين يقول: “نأمل أن تتمكن الأوساط الواسعة والمؤثرة …..أن تقنع حتى مصدري البيانين بقبول المصالحة مع المقاومة الفلسطينية ….”!؟ وفي هذه تهمة مباشرة أن المقاومة أو الثورة أو النضال أو الكفاح بكافة الأشكال الذي نفهمه منذ بداية القرن العشرين للشعب الفلسطيني ثم مع انطلاقة المقاومة الفلسطينية عام 1965 وما تلاها قد تم حذفه من الرواية الفلسطينية الحالية لمصلحة الخلافات السياسية القائمة أو لمصلحة دعم فصيل بعينه، وبمعنى أن من معنا هم المقاومة والثورة والكفاح وبالشكل الذي نراه فقط، ومن هم ضدنا فهم ضد المقاومة بإطار عقلية المعسكرين أو الفسطاططين الايديولوجية التي لا تقبل الآخر، والتي أدت بالحقيقة للانشقاق الفلسطيني القائم.
دعني اختم بنقاط كالتالي:
1-باعتقادي أن الجميع يقرّ أن الحالة الفلسطينية -في ظل العدوان الصهيوامريكي الفاشي على غزة- ليست بخيرمطلقًا، حيث الخلاف الشديد الذي وقع مع الانشقاق والانقسام قد طال كل المناحي، لاسيما وفشل كل محاولات المصالحة، ومع التغول الصهيوني اليومي في فلسطين الى أن وصلنا لمجزرة (صبرا وشاتيلا) يومية بالقطاع (2023-2024م) والإبادة والتهجير وحرث الأرض والاحتلال لكل غزة والتدمير الكامل، ولا جسم ينهض للتصدي الموحّد ما يجعل القلب يدمي والعقل يعجز عن الفهم، فإن لم توحدنا أكبر كارثة تحصل لنا منذ النكبة عام 1947 -1948م فمتى إذن!
2-إن التوقيع على بيان من 1200 شخص داعيًا لإصلاح المنظمة بلا شك هو ممارسة ديمقراطية ضرورية برأينا وتأييدنا، وكان على منظمة التحرير الفلسطينية بأطرها المختلفة أن تفتح مع الموقعين باب الحوار، ومع كل الاحترام للموقعين على اختلاف وجهات نظرهم المقدرة فإن الدعوة شيء، والانزلاق نحو تشكيل إطار موازي او بديل شيء آخر.
3-لم يكن كل من البيانين موفقين نتيجة الخروج عن سياق مباديء الاختلاف المأمول والحوار المطلوب عدا عن أن التمييز يجب أن يكون قائمًا بين جهة اكتسبت شرعيتها (الداخلية والعربية والعالمية) بالمقاومة والنضال بكافة الاشكال، وبما لا يقارن بأي تشكيل أو جماعة أو إطار يحاول القفز على المنظمة كإطار جامع، أو يحاول تصدير روايته الخاصة للأحداث كرواية أوحدية إقصائية، أو حتى بالنية الحسنة يحاول إصلاح المنظمة ولكن بوسيلة لا تبرر الغاية.
4-إن حال منظمة التحرير الفلسطينية وكذلك الحال مع كافة الفصائل الفلسطينية بالحقيقة يحتاج إصلاح مؤكد، ويحتاج لإعادة نظروإعادة بعث وإعادة بناء، وخطاب جديد وشخصيات جديدة. فلقد طال الخراب والانهيار الجزئي أو الكلي الفصائل التي تحتاج لتجديد أو استنهاض ذاتها وتصويب مسارها المنهجي، لإن مَن لايسير باتجاه بوصلة فلسطين فقط، فإنه يدفع بنا الى الهاوية السحيقة.
5-من المتوجب لكل الضالعين في عملية الاصلاح والبناء صيانة إرث الثورة والمقاومة والكفاح الفلسطيني، أنجازات الخالد الراحل ياسر عرفات ورفاق دربه الطويل -جورج حبش وحواتمة ومن لحقهم امثال أحمد ياسين وفتحي الشقاقي واسماعيل أبوشنب- الذي حقق الوطنية، والكيانية المعترف بها عالميا، وحقق الوحدوية في إطار الكيانية، كما حقق الاستقلالية للقرار ضمن العمق العربي، والديمقراطية والحوار والتشاركية وهي الأسس الذهبية التي لا غنى عنها ولا محيد.
Baker AbuBaker
writer & author