لبنان

العلامة الشيخ علي الخطيب في خطبة الجمعة

أدى نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى سماحة العلامة الشيخ علي الخطيب الصلاة في مقر المجلس بعد أن ألقى خطبة الجمعة التي جاء فيها: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله الطيبين الطاهرين واصحابه المنتجين وعلى جميع الأنبياء والمرسلين والشهداء والصالحين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الضروري أيّها الأخوة، ونحن نعيش في هذا العالم وفي هذه الأيام صراعات وحروباً تأخذ طابع الشراسة والشدّة والتعّدد في الوجوه والأشكال، عسكرية واقتصادية وإعلامية وهي في واقعها ليست صراعات أو حروباً طارئة ومستجدة على المجتمعات البشرية، وإنما هي نتاج للطبع البشري الغرائزي مع قابلية التحكّم به والقدرة على الحدّ من تأثير الغرائز عليه إن تحوّلت هذه القدرة من عالم القابلية إلى عالم الفعلية وهي ليست سهلة المنال فهي تحتاج الى تفعيل ليس على المستوى المعرفي النظري الفطري التي هي من وظائف العقل التي تنمو إلى جانب النمو للغرائز فهما يسيران جنباً إلى جنب {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}، فهي هداية فطرية وظيفتها لجم الغرائز والسيطرة عليها واستخدامها في حدود الحاجة التي تخدم وظيفة العقل في التعرّف على الكون والخلق وعظمته وتبعث على الاستجابة لمتطلباتها من الاعتراف لله تعالى بالعبودية وحقّه المطلق بالطاعة.
فالعقل بما هو منتج للمعرفة وكاشف للحقائق وهادٍ إلى الصواب هو محلّ القصد والاهتمام، أما الغرائز فليست سوى الوسيلة التي تخدم العقل ليقوم بالوظيفة التي كان من أجلها وتفعيل الغرائز هو أمر ميكانيكي يحصل بالنمو الطبيعي للجسد، ولكن عملية تحكم العقل بالغرائز وتُمكّنه من لجمها وترويضها هو أمر عملي يحتاج إلى جهد ومثابرة تماماً كعضلات الجسد التي تحتاج الى القيام بالتمارين الرياضية لتقوى وتشتد وتكون جاهزة عند اللزوم للاستعانة بها لدفع الأذى، والعقل كالعضلة يحتاج إلى جهد دائم لِيَتمكّن من مواكبة نمو الغرائز وإبقائها في حدودها الوظيفية التي عليه تحديدها ولذلك سُمِيَ العقل بالهادي وبالنبي الباطني.
ولذلك فهما في صراع داخلي دائم كما أن قدرة العقل على استكشاف الحقائق تقتصر على ما تزوده به الحواس ومن ثم على قدرته على الربط بينها وتحليلها واستخلاص النتائج، ومن هنا كانت الحاجة إلى النبوات لسدّ هذا النقص والتعرّف على المصالح والمفاسد والطرق التي يجب اتباعها لتلافي المفاسد وتحصيل المنافع التي تحقّق له سعادة الدارين في الدنيا والآخرة.
قال تعالى في كتابه العزيز:{ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ}.
لقد حدّدت هذه الآية الكريمة المهمات التي أسندت للانبياء بثلاث:
الأولى: مهمة إسناد لوظيفة العقل في التبشير والانذار.
والثانية: مهمة تقديم ما قصر العقل عن استكشافه من معارف وتحديد المصالح والمفاسد عبر التعريف بالاحكام الشرعية التي تحققها أو تتلافاها
الثالثة: مهمة تطبيق هذه الأحكام والفصل في الخصومات وفق الموازين الشرعية الإلهية وعدم الاكتفاء بالتعريف بها، وبالتالي الدفاع عن الحق بالابلاغ عنها حينما يتعدّى المتضررون من العمل التوعوي الذي يحتل المرتبة الاولى لدى الانبياء ورأس اهتماماتهم.
وهو الذي دعا أصحاب المصالح المتضررة إلى مواجهتها وإحباط مفاعيلها واستباحوا كل الوسائل التي ظنّوا انها كفيلة بإفشال هذه المهمة، ومن الملاحظ أن هذه الوسائل المستخدمة في مواجهة الأنبياء واحدة وهي وسائل يجمعها عنوان اللاخلاقية التي تعني العجز عن الإثبات بالدلائل المنطقية بطلان منطق الدعوة الذي استخدم الدلائل العقلية والبراهين المنطقية في اثبات ما ادّعوه، أما المنطق المقابل فاعتمد الاتهام والكذب والتشويه والتزوير والسخرية، وأهم ما تمسّكوا به ان ما هم عليه إنما وجدوا عليه آباءهم وهو في الواقع ليس موجّهاً للنبي ودعوته وإنما للعقل الغرائزي والبسيط للعامة من الناس اذا صحّ التعبير، لأن الفهم البسيط يتأثر ويُقدّس ما أنس به من معتقدات وأعراف يصعب عليه أن يألف تغييرها.
{ إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ}.
وهي نقطة واهية منطقياً ولكنّها نقطة قوة في منع التأثير على هذه الفئة التي تفتقد الى المنطق والوعي ولا تعتمد الدليل المنطقي في الحوار، بل لا تستند إلى الحوار مع من تختلف معه في الفكر وإنما تعتمد العصبية وتلجأ لاستخدام القوة لحسم الخلاف بما يخدم أهداف من يقودون المواجهة مع الحق ولو كان الحق يهدف إلى تحقيق مصالحهم، فشكّلت هذه القاعدة والارضية التي يصلح الاستناد إليها للتصدي للدعوة والرسالة في كل المراحل التاريخية ومع كل الانبياء ودعاة الإصلاح.
لقد حكم العنف كل المواجهات التي قوبلت بها دعوات الأنبياء والمصلحين التي اعتمدت الحوار والنقاش الهادئ بأمر إلهي { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}.
أيها الأخوة، إنّ اللجوء الى لغة العنف واستخدام القوة هي لغة العاجزين والضعفاء ولا يعني أن هؤلاء لا يدركون صوابية هذا المنطق ولكن هذه اللغة تتعارض مع مصالحهم، لذلك فإن القوى التي وضعت مواثيق الامم المتحدة والقوانين الدولية وشرعة حقوق الإنسان التي هي في غالبها مقبولة أن القوى التي أقرّتها هي القوى العظمى والغاشمة ولكنها ترفض تطبيقها أو تطبقها بشكل استنسابي بما يتوافق مع مصالحها، فهي تعتبر أن القوة التي تمتلكها تُعطي لها الحق في مخالفتها وهي تمارس المواربة والالتفاف عليها لإيهام الآخرين بأحقّية منطقها أو تستخدم القوة لإجبارها على التماهي معها في وفي تصويرها الحقّ باطلاً والباطل حقاً والمحقّ معتدياً والمعتدي محقاً وتسخّرها كأدوات طيّعة لفرض إرادتها.
إنه المنطق الفرعوني الذي خضع له قومه بعد أن أُبديت لهم النصيحة بترك العلوّ في الأرض والافساد قال تعالى حاكياً ذلك: { يَٰقَوْمِ لَكُمُ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ ظَٰهِرِينَ فِى ٱلْأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِنۢ بَأْسِ ٱللَّهِ إِن جَآءَنَا ۚ قَالَ فِرْعَوْنُ مَآ أُرِيكُمْ إِلَّا مَآ أَرَىٰ وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ ٱلرَّشَادِ}.
الذي استخدم منطق القوة والتضليل في مواجهة دعوة الحق والتنبيه من سوء عاقبة هذا المسار، إنه المنطق نفسه الذي يتعاطى به الغرب في التعامل مع الآخر المستضعف وهذا ليس بالأمر الجديد عليه ولكنّه كان يحجب الحقائق عن شعوبه التي سَلّمت له منطقه (مَآ أُرِيكُمْ إِلَّا مَآ أَرَىٰ وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ ٱلرَّشَادِ).
وصدقت الشعارات التي رفعها واستتر خلفها من الديمقراطية والحرية وحقوق الانسان وانه يحملها رسالة يعمل على نشرها في العالم التي إعتبرتها شعوبه من أهم ما انتجته من قيم حضارية تفتخر بها أمام العالم، ومن أهم إنجازاتها الفكرية في هذا العصر الذي بدأ يكتشف بفضل ما أنجزته المقاومة وما تعرّض له المدنيون من الشعب الفلسطيني في غزة من مجازر وابادة انه اْسْتُغْفِل وأن القوى الحاكمة والمتحكّمة بمقدراته التي أعطته ثقتها وأمّنته على ما اعتبرته من اهم انجازاتها قد خانت هذه الامانه وهي ترتكب أفظع جريمة في التاريخ الإنساني بإسمه، وما يجري في شوارع أوروبا والولايات المتحدة والجامعات العريقة ليس سوى ردة فعل للشعور بالخيبة، وأن كل ما ادّعاه أصحاب الانظمة الليبرالية المتوحشة ليست سوى ادعاءات فارغة مُضلّلة أعمت عيونهم عن إدراك حقيقة هذا النظام المتوحش الذي يمارس الخداع والتضليل والاباطيل والتزوير ويلقي بالاتهامات الباطلة كتوصيف حركات التحرر كالمقاومة بالارهاب التي تدافع عن حقّ شعوبها في التحرّر من الظلم والاستعباد الذي يمارسه عليها الطاغوت الغربي الفاجر صانع الارهاب وداعمه باسم الدين وباسم الإسلام الذي لم تستحِ ولم تخجل في الاعتراف به وزيرة الخارجية الامريكية الأسبق هيلاري كلينتون، الامر الذي ينمّ عن الاستخفاف المهين بالوعي العربي والإسلامي للأسف لأدراكها أن اعترافها بذلك لن تكون له أية تبعات أو ردات فعل سلبية في العالم العربي والاسلامي على الولايات المتحدة والغرب ومصالحه لأنه غارق في وحول الماضي المذهبي مُكبّل بقيوده الكفيلة بمنعه من التحرّر والانعتاق منها.
نعم إنها محنة العقل العربي والإسلامي بل داؤه الذي ليس فقط انه لم يقتنع بعد بالبحث عن علاجه الشافي بل لم يقتنع انه مصاب بالمرض حتى يبحث عن العلاج، نحن اذاً بحاجة إلى اقناعه بانه مصاب بالمرض أما الدواء فهو متوفر وموجود وهو جدير بالمعالجة ما إن يقتنع بذلك وهو التخلي عن العقلية المذهبية وتسيسها.
إنّ العرب والمسلمين اليوم أشبه بالمريض النفسي الذي يرى نفسه في أتمّ الصحة والعافية وأن الآخرين هم المرضى، لذلك نحتاج إلى هذا النوع من الأطباء ليحلوا لنا هذه المعضلة، لقد شَخَّصْنا هذا المرض بالمذهبية السياسية ولكن نحتاج إلى من يقنع المريض بذلك.
أما نحن في لبنان فالمريض مقتنع بأن المرض هو في الطائفية السياسية والجميع يقرّ بذلك وأن الشفاء من هذا المرض قوامه بإقامة دولة المواطنة ومع ذلك يمتنع فريق من اللبنانيين من الذهاب الى هذه المعالجة ويصرّ على الانتحار، فمن يحلّ لنا هذه العقدة النفسية يا ترى التي تقنع اللبنانيين بعدم الانتحار غير الطبيب النفسي الذي لم نجد له أثراً حتى الآن غير المقاومة التي ذهبت إلى اقتلاع جذور المرض المتمثل بالكيان الاسرائيلي الذي تراهن عليه بعض القوى في الداخل العربي والإسلامي ومنه لبنان، هذه القوى المتماهية مع المشروع الغربي معتقدة ان في نجاح هذا المشروع في تثبيت أركانه فرصتها في تحقيق مشروعها الذي طالما حلمت به وراهنت عليه وتصرّفت على اساسه بالتآمر على ضرب أي حركة نهضوية في العالم العربي والاسلامي بالتحالف مع الانظمة التي أعطيت نفس الوظيفة وأدخلت المنطقة في جدية عظيمة وحروب عبثية لصرف النظر عن المهمة الأساسية لمواجهة الخطر الأصيل المتمثّل بالكيان الصهيوني والمشروع المكمل له بتفتيت المنطقة الى كيانات مذهبية.
لقد تصارع هذان المشروعان لمدة ليست قصيرة استطاع المشروع التفتيتي أن يتغلب لفترة قصيرة ظهر في الاستسلام لإرادة الغرب بتوقيع اتفاقيات مذلة للعالم العربي والاسلامي والمسارعة إلى إعلان التطبيع مع الكيان الصهيوني إعلاناً لوفاة العروبة والاسلام وانتصاراً للصهيونية العالمية ولم يتبقَّ سوى دفن هذا الميت الذي لم يجد من يدفنه ويحثو التراب على جثمانه ولكن سرعان ما خرج المارد من القمقم معلناً أن الذي مات هو من باع وليست الامة، فهذه الامة عصية على الاعداء وأن موتها أمنية لن تتحقّق للأعداء، ذلك وعد الله الذي لن يخلف وأن أمة روحها المقاومة لن تموت وقد أعدّت لعدو الإنسان والتاريخ والقيم موت الزؤام، تتغير الانظمة وتمضي ولكن الأمة حيّة باقية بروح عيسى ومحمد والانبياء.
لقد أصابت المقاومة بالمعالجة بالذهاب إلى رأس الافعى الذي تدوسه اليوم وتمعن في سحله وعذابه فيحاول يائساً أن يظهر قدرته على الانتصار والبقاء وحلفاؤه يمدّونه بما يعتقدونه أسباباً للبقاء على قيد الحياة ولكن هيهات هيهات فقد فات ما فات وهل غير الله يعيد الأموات؟ .
فيا أهل غزة الإباء والعزة، ويا أهلنا في الجنوب الأوفياء لم يبقَ الا القليل من الصبر، فالنصر صبر ساعة وها قد دنت ساعة الانتصار ويحلّ السلام على أمة السلام، والسلام يقرؤكم السلام..
{ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ }.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى