
بين أوهام الحسم وخيارات التصفية: غزة في عين الإعصاربقلم: عماد العيسى
في المشهد الفلسطيني، لم تعد غزة مجرد ساحة مواجهة بين مقاومة متجذرة وقوة احتلال غاشمة، بل باتت قلب العاصفة التي تدور حولها التحولات الإقليمية والدولية. كل ما يجري اليوم – من المناورات السياسية داخل الكيان، إلى التحركات الدبلوماسية المتسارعة، مرورًا بتصريحات السلطة الفلسطينية ومخرجات مؤتمر نيويورك – يشير بوضوح إلى أن غزة تقف على مفترق طرق حاسم، حيث يجري التخطيط لإنهاء حالة الصمود فيها بأي وسيلة ممكنة.
ليست الحرب في غزة حربًا تقليدية هدفها الأمن أو تبادل الأسرى أو حتى فرض تهدئة. ما يُدار خلف الكواليس، وفي غرف العمليات، هو محاولة شاملة لتفكيك العقدة الفلسطينية عبر كسر إرادة القطاع، باعتباره الرمز المتبقي للمقاومة والرفض. ولعل أكثر ما يكشف النوايا الحقيقية، هو الربط بين الميدان العسكري ومشاريع “إعادة الإعمار” أو “المدينة الإنسانية”، التي تُطرح اليوم كغطاء لخطط تهجير وتصفية لا تقل خطرًا عن المعركة نفسها.
تصعيد تدريجي.. لا احتلال شامل
رغم الأصوات المتطرفة داخل الكيان التي تنادي بإعادة احتلال قطاع غزة بالكامل، تدرك المؤسسة الأمنية الإسرائيلية أن هذا السيناريو محفوف بالمخاطر. فالحرب الطويلة أنهكت الجيش، والانقسامات الداخلية تعمّقت، والضغط الدولي بلغ ذروته. لذلك، يبدو السيناريو الأكثر ترجيحًا هو التصعيد التدريجي: مزيد من التوغلات، اغتيالات مركزة، تقطيع أوصال القطاع، وفرض معادلة إنسانية-أمنية خانقة تهدف لإجبار السكان على الخروج الطوعي أو القسري، ضمن إطار مشروع “المدينة الإنسانية”.
هذا المخطط لا يحتاج إلى إعلان رسمي، بل إلى وقائع ميدانية تُفرض بالقوة، وتتذرع بالضرورات الإنسانية. وهنا تتحول المأساة إلى وسيلة من وسائل الحرب، ويُستخدم الحصار والمجاعة والتدمير الممنهج كأدوات لتغيير الجغرافيا والسكان.
انقسام داخل الكيان أم توزيع أدوار؟
الخلاف الظاهري بين المؤسسة العسكرية وقيادات اليمين المتطرف ليس خلافًا على الأهداف، بل على الوسائل والتوقيت. الجيش يخشى الانزلاق إلى مستنقع احتلال دائم يستنزف القدرات ويقوّض الجبهة الداخلية، بينما يدفع نتنياهو – تحت ضغط سياسي وشخصي – نحو تسريع وتيرة التصعيد لفرض أمر واقع قبل أن تتغير المعادلات الدولية أو يتسع الحراك الشعبي داخل الكيان.
بمعنى آخر، ما يُروج له من انقسام هو – في كثير من جوانبه – جزء من لعبة توزيع أدوار سياسية وأمنية، تهدف إلى تمرير المخطط الأوسع دون إثارة صدمة داخلية أو رد فعل دولي حاد. الكل في تل أبيب متفق على أن غزة يجب أن تُكسر، وأن ملفها يجب أن يُغلق تمهيدًا لترتيبات إقليمية قادمة، تتضمن تصفية القضية أو تقزيمها على الأقل.
الدور العربي.. مساهمة سلبية أم غطاء ناعم؟
ما يزيد المشهد قتامة، هو المساهمة السلبية لبعض الأطراف العربية التي لم تكتفِ بالصمت، بل لعبت – عن قصد أو بدونه – دور الغطاء السياسي للعدوان. سواء عبر الضغوط المباشرة على بعض فصائل المقاومة، أو من خلال الإصرار على عودة السلطة إلى غزة كشرط للتمويل والدعم، يجري الدفع نحو سيناريو يُفرغ القطاع من جوهره السياسي والمقاوم.
الأخطر من ذلك، أن هذا التوجه الإقليمي يتقاطع مع أجندات دولية تعتبر غزة “مشكلة يجب حلها” بأي وسيلة، بما في ذلك فرض ترتيبات انتقالية برعاية عربية–دولية، تسمح بتأهيل السلطة، وإقصاء فصائل المقاومة، وتقديم ذلك على أنه “حل سلمي وإنساني”.
الرد الفلسطيني: ما بين التشتت والممكن
في مواجهة هذا المشهد المعقد، تبدو الساحة الفلسطينية في وضع حرج. الانقسام ما يزال قائمًا، والخطاب الرسمي لا يرقى إلى مستوى التحديات، والمقاومة – رغم صمودها الاستثنائي – بحاجة إلى رؤية سياسية تتجاوز الميدان.
ما يمكن أن يُغير المعادلة، هو تشكيل جبهة مقاومة فلسطينية موحدة، لا تكتفي بإدارة المواجهة عسكريًا، بل تتبنى خطابًا سياسيًا وإعلاميًا ذكيًا، يكشف أهداف الاحتلال، ويفضح المتواطئين، ويستثمر الزخم الشعبي الدولي الذي بدأ يتصاعد ضد جرائم الحرب الإسرائيلية.
هذه الجبهة يجب أن تتحرك على عدة محاور:
أولاً، داخل غزة لتعزيز صمود الناس وكشف حقيقة “المدينة الإنسانية” كأداة تهجير.
ثانيًا، في الضفة الغربية عبر تصعيد الحراك الشعبي ضد السلطة وسياستها التنسيقية.
ثالثًا، في الشتات والمنصات الدولية لكشف الصورة الحقيقية لما يجري، وتوسيع دائرة الدعم الشعبي والحقوقي لفلسطين.
مستقبل غزة.. مستقبل فلسطين
العدوان على غزة ليس معركة محصورة جغرافيًا، بل اختبار شامل لثوابت القضية الفلسطينية. فإسقاط غزة يعني إغلاق ملف العودة، وتكريس السلطة كوكيل إداري للمرحلة القادمة، وتصفية جوهر المشروع الوطني. بينما صمودها يعني الإبقاء على الأمل، وإعادة رسم المسار السياسي على أسس مختلفة.
إن معركة غزة اليوم هي المعركة الأخطر منذ نكبة 1948، ليس فقط بسبب حجم الدمار، بل بسبب عمق المشروع الذي يُراد تمريره من خلالها. وهو مشروع لا يستهدف الأرض فقط، بل يضرب الهوية والحق والوعي، ويحاول أن يفرض معادلة جديدة عنوانها: لا مكان للمقاومة في الشرق الأوسط القادم.
لكن الرهان على كسر غزة قد يكون رهانًا خاسرًا. فالتاريخ، كما الحاضر، أثبت أن إرادة الشعوب لا تُكسر بسهولة، وأن الأرض التي أنجبت كل هذا الصمود لن تفرّط في حقها مهما بلغت التضحيات.