
شمعتان تُضيئان طريقَ الأمل(قصة قصيرة)بقلم: د.غَازِي قَانصُو
في صَباحٍ مُشْمِسٍ مِن أَيَّامِ المَرْحَلَةِ الدِّرَاسٍيَّةِ الثَّانَوِيَّةِ، جَلَسَ الطَّالِبَانِ يُوسُفُ وَآدَمُ جَنْبًا إِلَى جَنْبٍ عَلَى مَقَاعِدِ الدِّرَاسَةِ. كَانَا شَابَّيْنِ مَفْعَمَيْنِ بِالطُّمُوحِ وَالأَحْلَامِ، يُغَذِّي كُلٌّ مِنهُمَا الآخَرَ بِحَمَاسَةٍ لا تَعْرِفُ الكَلَلَ. يُوسُفُ، بِعَيْنَيْهِ اللَّتَيْنِ تَتَأَلَّقَانِ بِشَغَفِ العِلْمِ، كَانَ يَحْلُمُ أَنْ يُصْبِحَ مُهَنْدِسًا يَبْتَكِرُ تِقْنِيَّاتٍ لِتَحْوِيلِ الطَّاقَةِ الشَّمْسِيَّةِ إِلَى كَهْرَبَاءِ تُضِيءُ بِلَادَهُ الَّتِي تَنْعَمُ بِالشَّمْسِ أَغْلَبَ أَيَّامِ السَّنَةِ. أَمَّا آدَمُ، بِعَقْلِهِ الحَالِمِ وَقَلْبِهِ الرَّحِيمِ، فَقَدْ أَرَادَ أَنْ يُصْبِحَ طَبِيبًا يُسَخِّرُ عِلْمَهُ لِمُعَالَجَةِ مَرْضَى السَّرَطَانِ، ذَلِكَ المَرَضُ الَّذِي سَرَقَ مِنهُ جَدَّتَهُ الحَبِيبَةَ.
عَلَى مَدَارِ ثَلاثِ سَنَوَاتٍ مِنَ الدِّرَاسَةِ الثَّانَوِيَّةِ، نَمَا بَيْنَهُمَا رَابِطٌ مَتِينٌ مِنَ الصَّدَاقَةِ. كَانَا يُشَجِّعَانِ بَعْضَهُمَا عَلَى الاِجْتِهَادِ، يَتَقَاسَمَانِ الأَوْقَاتَ الصَّعْبَةَ، وَيَتَبَادَلانِ الأَفْكَارَ الطَّمُوحَةَ. وَعِندَمَا حَانَتْ لَحْظَةُ التَّخَرُّجِ، اِفْتَرَقَتْ دُرُوبُهُمَا إِلَى حِينٍ، حَيْثُ اِلْتَحَقَ يُوسُفُ بِكُلِّيَّةِ الهَنْدَسَةِ، بَيْنَمَا اِنْطَلَقَ آدَمُ إِلَى كُلِّيَّةِ الطِّبِّ. وَرَغْمَ بُعْدِ المَسَافَاتِ وَاخْتِلَافِ التَّخَصُّصَاتِ، حَافَظَا عَلَى تَوَاصُلِهِمَا، يُبْعِثَانِ الرَّسَائِلَ، وَيَتَقَاسَمَانِ أَحْلَامَهُمَا الَّتِي كَبُرَتْ مَعَ الأَيَّامِ.
بَعْدَ سَنَوَاتٍ مِنَ الاِجْتِهَادِ فِي مَقَاعِدِ الجَامِعَةِ، تَخَرَّجَ كُلٌّ مِنهُمَا لِيَبْدَأَ رِحْلَتَهُ فِي مَيَادِينِ العَمَلِ. يُوسُفُ وَجَدَ نَفْسَهُ فِي مُخْتَبَرَاتِ الهَنْدَسَةِ يُطَوِّرُ أَنْظِمَةً مُتَقَدِّمَةً لِتَحْوِيلِ الطَّاقَةِ الشَّمْسِيَّةِ إِلَى كَهْرَبَاءِ. أَمَّا آدَمُ، فَكَانَ يَغُوصُ فِي أَبْحَاثٍ طِبِّيَّةٍ تُرَكِّزُ عَلَى إِيجَادِ عِلَاجَاتٍ مُبْتَكَرَةٍ لِمَرْضَى السَّرَطَانِ.
ذَاتَ يَوْمٍ، أَثْنَاءَ حِوَارٍ مُطَوَّلٍ بَيْنَهُمَا، وُلِدَتْ فِكْرَةٌ غَيْرُ مَأْلُوفَةٍ. اِقْتَرَحَ يُوسُفُ عَلَى آدَمَ أَنْ يَتَعَاوَنَا لِدَمْجِ مَجَالَيْهِمَا، بِاسْتِخْدَامِ الكَهْرَبَاءِ النَّاتِجَةِ عَنِ الطَّاقَةِ الشَّمْسِيَّةِ لِتَطْوِيرِ تِقْنِيَّاتٍ طِبِّيَّةٍ تُسَاهِمُ فِي عِلَاجِ السَّرَطَانِ. لَمْ يَكُنِ الأَمْرُ سَهْلًا، لَكِنَّهُ كَانَ حُلُمًا يَسْتَحِقُّ المُحَاوَلَةَ.
بَدَأَ الصَّدِيقَانِ العَمَلَ عَلَى مَشْرُوعِهِمَا الطَّمُوحِ. وَاجَهَا الكَثِيرَ مِنَ العَقَبَاتِ، بَدْءًا مِنْ نَقْصِ التَّمْوِيلِ إِلَى الأَفْكَارِ المُحْبِطَةِ الَّتِي حَاوَلَ بَعْضُهُم زَرْعَهَا بَيْنَهُمَا. أجَلْ، لَمْ يَكُنْ غَرِيبًا أَنْ يُحَاوِلَ بَعْضُهُم التَّفْرِيقَ بَيْنَهُمَا بِالحَدِيثِ عَنْ اخْتِلَافِ مَجَالَيْهِمَا أَوْ صُعُوبَةِ تَحْقِيقِ هَدَفِهِمَا، فَهَذا شَأنُ نَوعٍ مِنَ النًّاسِ. وَمَعَ ذَلِكَ، كَانَا يُدْرِكَانِ أَنَّ العَوَائِقَ لَيْسَتْ سِوَى جُزْءٍ مِنَ الطَّرِيقِ إِلَى النَّجَاحِ.
مَرَّتْ عَلَيْهِمَا أَيَّامٌ ثَقِيلَةٌ مَلِيئَةٌ بِالفَشَلِ، لَكِنَّهُمَا لَمْ يَتَرَاجَعَا. كَانَا كُلَّمَا تَعَثَّرَا، يَجِدُ أَحَدُهُمَا فِي الآخَرِ الدَّافِعَ لِلنُّهُوضِ مِنْ جَدِيدٍ. وَفِي المُقَابِلِ، شَهِدَتْ حَيَاتُهُمَا لَحَظَاتٍ مِنَ النَّجَاحِ البَاهِرِ. نَجَحَا فِي تَطْوِيرِ نِظَامٍ يُحَوِّلُ الطَّاقَةَ الشَّمْسِيَّةَ إِلَى تَيَّارَاتٍ كَهْرَبَائِيَّةٍ دَقِيقَةٍ تُسْتَخْدَمُ لِتَحْفِيزِ خَلَايَا مُعَيَّنَةٍ فِي الجِسْمِ، مِمَّا سَاعَدَ عَلَى تَحْسِينِ اسْتِجَابَةِ المَرْضَى لِبَعْضِ العِلَاجَاتِ الكِيمْيَائِيَّةِ.
بَعْدَ سَنَوَاتٍ مِنَ العَمَلِ المُشْتَرَكِ، أَعْلَنَا عَنْ اِبْتِكَارِهِمَا فِي مُؤْتَمَرٍ عَالَمِيٍّ. كَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا؛ يَوْمًا أَثْبَتَا فِيهِ لِلْعَالَمِ أَنَّ التَّعَاوُنَ بَيْنَ العُقُولِ المُخْتَلِفَةِ يُمْكِنُ أَنْ يُثْمِرَ مُعْجِزَاتٍ.
ورَغْمَ إِنْجَازِهِمَا الكَبِيرِ، لَمْ يَنْسَ يُوسُفُ وَآدَمُ هَدَفَهُمَا الأَسْمَى: تَقْدِيمُ خِدْمَةٍ تُرْضِي اللهَ وَتَنْفَعُ البَشَرِيَّةَ. كَانَا يُؤْمِنَانِ أَنَّ نَجَاحَهُمَا لَمْ يَكُنْ لِيَكْتَمِلَ لَوْلَا صَدَاقَتُهُمَا الَّتِي لَمْ تُطْفِئْهَا رِيَاحُ التَّحَدِّيَاتِ، والعَوائِقِ الكَثِيرةِ؛ الْمَادِّيَةِ مِنْ قِلَّةِ الْمَوَارِدِ الْمَالِيَّةِ، وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ النَّاتِجَةِ عَنْ سُلُوكِ النَّاسِ مِنْ الْحَسَدِ وَالْبُغْضِ غَيْرِ الْمُبَرَّرِ ، وَمُحَاوَلَةِ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا، الَى ضِيقِ الْوَقْتِ وَكَثْرَةِ الْمَطَالِبِ ، لَكِنَّهُمَا كَانَا كَبِيرَيْنِ فِي الْقَلْبِ وَالرُّوحِ وَالْايَمَانِ كَمَا كَانَا كَبِيرَيْنِ فِي الْغَايَاتِ وَالِاهْدَافِ وَالْأَفْعَالِ.
فِي هَذِهِ الحَيَاةِ، الطُّمُوحَاتُ كَثِيرَةٌ، وَالطُّرُقُ مُتَشَعِّبَةٌ، لَكِنَّ المَبْدَأَ الوَاحِدَ الَّذِي لَيسَ فِيهِ شَكٌّ أَوْ خَلَلٌ هُوَ أَنَّ التَّعَاوُنَ الصَّادِقَ وَالمُثَابَرَةَ الحَقِيقِيَّةَ هُمَا الزَّادُ الأَفْضَلُ لِرِحْلَتِنَا فِي الزَّمَنِ.
يُوسُفُ وَآدَمُ لَمْ يَكُونَا فَقَطْ قِصَّةَ نَجَاِ شَخْصِينِ مُخْلِصَينِ لِبَعْضِهِمَا وَلِأَهْدَافِهِمَا، بَلْ صَارَا قِصَّةَ قُلُوبٍ تَحْتَرِقُ شَوْقًا لِخَيْرِ اَلإنْسَانِيَّةِ بِرُمَّتِهَا.
وَفِي نِهَايَةِ طَرِيقِهِمَا، الَّتِي لَمْ تَنْتَهِ حَتَّى نِهَايَةِ الْعُمْرِ ، لِيُكْمِلَهَا آخَرُونَ، وَبَعْدَ أَنْ أَضَاءَا الطَّرِيقَ لِكَثِيرِينَ مِمَّنْ جَاءُوا بَعْدَهُمَا، أَدْرَكَ كُلٌّ مِنْهُمَا أَنَّ أَعْظَمَ المَكَاسِبِ لَيْسَتِ المَكَاسِبَ المَادِّيَّةَ، بَلْ هِيَ تَرْكُ الإِرْثِ مِنَ العَمَلِ الَّذِي يُحْتَذَى بِهِ.
العِبْرَةُ:
مَا أَجْمَلَ أَنْ يَكُونَ فِي حَيَاةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا “شَمْعَةٌ” تُضِيءُ طَرِيقَهُ وَطَرِيقَ غَيْرِهِ، وَتَكُونُ رِسَالَتُهُ فِي الحَيَاةِ أَنْ يُضَافِرَ جُهُودَهُ مَعَ غَيْرِهِ لِيَصْنَعُوا مَعًا حُلُمًا يُجَدِّدُ الأَمَلَ فِي المُجْتَمَعِ الإنْسَانِيِّ الكَبِيرِ.
مَع تَحِيًّاتِي،
د.غَازِي مُنِير قَانْصُو
الأحَدُ الواقِعُ فِيهٍ ١٥-كانون الأوّل-٢٠٢٤