مقالات

الحياةُ مَسرَحٌ كَبِيرٌ: تَحدِّياتُ البَشَرِ بَينَ الصِّراعِ والرّجَاءِ بِعَالَمٍ مُنْصِفٍبقلم: غازي قانصو

الحَياةُ مَسرَحٌ كَبِيرٌ تَتداخَلُ فيهِ المَشاهِدُ، وتَتشابَكُ فيهِ الأدوارُ، فَتَراهُ أحيانًا واحةً مِن السَّلامِ، وأحيانًا ساحةً مِن الصِّراعاتِ والمَآسِي. كُلُّ إنسانٍ على هَذِهِ الأرضِ يُواجِهُ في دَربِه مُشْكِلَاتٍ ونِزَاعَاتٍ، ويَرَى في أفُقِ العَالمِ حُرُوبًا تُلِكُ الحَرثَ والنّسلُ وتَهدِمُ الأوطانَ، كما يُعانِي مِن صِرَاعَاتٍ تُثقِلُه، وَصُعُوبَاتٍ تُعَرقِلُ سَيرَهُ. تَتبايَنُ هَذِهِ التَّحدِّيَاتُ بينَ فَردٍ وآخَرٍ، وبينَ مُجتَمَعٍ وَآخَرَ، وَلكنَّها تُشكِّلُ بِمَجموعِهَا قَسْوَةَ الحَياةِ الدُّنْيا وَاختِبَارَ الإِنسَانِ.

لَكِنَّ السُّؤالَ الكَبيرَ هُو: هَل تُحَلُّ المُشْكِلَاتُ وَتَنحَسِرُ الحُرُوبُ الظّالِمَةُ وَتَتوقَّفُ النِّزَاعَاتُ وَتُعَالَجُ الصُّعُوبَاتُ؟ أَمْ أَنَّهَا جُزْءٌ لا يَتجزَّأُ مِن حَياتِنَا وَلا مَفرَّ مِن مُجَابهَتِهَا؟ فِي هَذَا النَّصِّ، نُحَاوِلُ سَبْرَ أغْوَارِ تِلْكَ التَّحدِّيَاتِ، وَفَهمَ أسبَابِهَا، وَالبَحثَ عَن طُرُقٍ تُسَاعِدُ الإِنسانَ فِي تَخطِّيهَا وَالتَّغلُّبِ عَلَيهَا.

يا صَاحِ، هذه المشكلاتِ والنِّزاعَاتِ والحُروبِ والصٍِراعاتِ والصُّعوباتِ، التي تُثقِلُ كاهلَ البشريَّةِ، وتَجعَلُ الحياةَ حَقلًا مِن التحدِّياتِ المُعقَّدةِ، حيثُ يَمتزِجُ الصِّراعُ بينَ الخيرِ والشَّرِّ، وبينَ العدلِ والظُّلمِ، وبينَ الرَّحمةِ والقَسوةِ، وبينَ الإجحَافِ والإنصَافِ.

١- المُشْكِلَاتُ:
إنَّ المشكلاتِ في الحياةِ كثيرةٌ مُتَنَوِّعَةٌ فِي حَجمِها وَمَضمُونِها؛ مِنها ما هو ناتجٌ عن ضَعْفِ الفَهْمِ والإدراكِ، ومنها ما هو نتيجةُ سوءِ التَّدبيرِ والتَّخطيطِ، مِنها مِن نَفسِهِ، ومِنها من مُحِيطِهِ. الإنسانُ في سَعيِه، يُواجِهُ عَقباتٍ تتطلَّبُ حِكمةً وصَبرًا، لكنَّ بعضَها يَتفاقمُ حينَ يُخطئُ النَّاسُ في تحليلِها أو التَّعاملِ معها، فتُصبحُ شِراكًا تُكبِّلُ الأيدي وَالأقدامَ وَتُثقلُ النُّفوسَ وتؤلِمُ الرُّؤُوسَ.

٢- النِّزَاعَاتُ:
هي جذورُ الفُرْقَةِ بينَ الأفرادِ والمجتمعاتِ، تَنشأُ مِن اختلافِ الأهواءِ والمَصالحِ، وتتمدَّدُ حينَ يُصبحُ الجَشَعُ والمُنافَسَةُ غيرُ الشَّريفةِ سَيِّدا الموقِفِ. فَتجِدُ نِزاعاتٍ بينَ الأقرَبِين والأبعَدِين، وبينَ الأصدقاءِ، وبينَ الشُّعوبِ، كلٌّ يَسعى لامتلاكِ شيءٍ على حسابِ غيرِه، مُتَناسِيًا أنَّ الحياةَ أوسعُ مِن أن يُضيِّقَها حبُّ الذَّاتِ والتَّملُّكِ الدُّنيَوِي الزَّائِل.

٣- الحُرُوبُ:
هي أبشعُ صورةٍ للصِّراعِ البشريِّ، حيثُ تَسقطُ القِيَمُ، ويَفْنَى الأبرياءُ، وتُدمَّرُ الأرضُ، وتُقطَعُ أوصالُ الإنسانيةِ. في الحربِ، يَتحوَّلُ المُعتدِي مِن بَشَرِيٍّ إلى وَحْشٍ، وتَسقطُ كلُّ الحُججِ أمامَ زَحْفِ الطَّمَعِ والسُّلطةِ والهيمنةِ. كلُّ حربٍ في التَّاريخِ كانتْ دليلًا على فَشَلِ الإنسانِ في فَهْمِ حقيقةِ وجودِه، وسقوطِه في فَخِّ العُدوانيَّةِ والأنانيَّةِ المُهلِكةِ.

٤- الصِّرَاعَاتُ:
وهي ليستْ كالحُروبِ فَقَطْ، بل إنَّ الصِّراعاتِ تتَّخذُ أشكالًا أُخرى، فقد تكونُ داخليَّةً بينَ النَّفسِ ورغباتِها، أو اجتماعيَّةً بينَ الطَّبقاتِ والفِئاتِ المُختلِفةِ، أو سياسيَّةً بينَ الأطرافِ المُتصارِعةِ على السُّلطةِ. يَعيشُ الإنسانُ حياتَهُ وهو يُصارِعُ، إمَّا ليَصلَ إلى الخيرِ، أو ليَسقطَ في شَرَكِ الأنانيَّةِ والانحرافِ.

٥- الصُّعُوبَاتُ:
هي تلكَ الحِجارَةُ التي تَقفُ في طريقِ كُلِّ عَامِلٍ وساعٍ لتحقيقِ أهدافِهِ السّامِيةِ، يَجِدُها العَالِمُ في بَحثِه، ويُواجهُها المُجتَهِدُ في سَعْيِه، ويَصطدِمُ بها الضَّعِيفُ كَمَا القَويِّ. الصُّعوباتُ إمَّا أن تكونَ بابًا للقُوَّةِ والنُّضجِ، أو أن تكونَ سُورًا يَحبِسُ الأنفُسَ عن التَّقدُّمِ. لكنْ، يَبقَى الثَّابِتونَ همُ الذينَ يَجتازُونَها بإرادَةٍ صُلبةٍ ويَقِينٍ بأنَّ اللهَ لا يُضيِّعُ جُهدَ المُخلِصينَ.

فِي كُلِّ هذا، يَبقى الرّجَاءُ بِاللهِ هو الرِّداءُ الذي يَحمِي القُلوبَ، والعَدلُ هو الميزانُ الذي يَجبُ أن نَحملَه، فَالعَدلُ أقربُ لِلتَّقوَى، ودارُ السَّلامِ هو الغايةُ التي يَنبغي أن نَسعَى لها.

فِي نِهَايَةِ المَطَافِ، تَبقَى الحَياةُ مَيدانًا لِلتَّحدِّي وَالاختِبَارِ، فَالمُشْكِلَاتُ وَالنِّزَاعَاتُ وَالحُرُوبُ وَالصِّرَاعَاتُ وَالصُّعُوبَاتُ لَيْسَتْ إِلَّا أَدَوَاتٍ لِصُنعِ الإِنسَانِ وَتَشكِيلِ قُوَّتِهِ وَصَقلِ رُوحِهِ. لَا يُمكنُ لِلإِنسانِ أَنْ يَتهرَّبَ مِن هَذِهِ الحَقَائِقِ، وَإِنَّمَا يُمكنُهُ أَنْ يُواجِهَهَا بِوَعيٍ وَحِكْمَةٍ، وَيَجعلَ مِن المِحَنِ مَدارِسَ تُعلِّمُهُ الصَّبرَ وَالثَّبَاتَ وَالإِرَادَةَ.

إِنَّ الحَقَّ وَالعَدلَ وَالحُبَّ وَالسَّلَامَ هِيَ القِيَمُ التِي يَجِبُ أَنْ تَسُودَ، وَهِيَ المِفْتَاحُ الحَقِيقِيُّ لِحَلِّ كَثِيرٍ مِن أزمَاتِ العَالمِ. وَمَهْمَا طَالَ اللَّيلُ وَاشتَدَّ الظَّلَامُ، فَإِنَّ النُّورَ يَبقَى مَوعُودًا لِكُلِّ مَنْ يَسعَى نَحوَهُ بِإِيمَانٍ وَإِخْلَاصٍ وَعَمَلٍ صَادِقٍ.

مَع تَحِيّاتي
د.غازي منير قانصو

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى