
ويليام… حين يصرخ الوجع باسم العدالة
بقلم الدكتور جيلبير المجبر
في وطنٍ اعتاد أن يُجهض الحقيقة قبل أن تولد، لم يعد الصمت فضيلة، بل خيانة.
وبين ركام بيروت التي ما زالت تتنفس الرماد، ووجوه الأمهات الغارقات في الصمت المكسور، خرج صوت… لا يشبه السياسيين، ولا يُجيد الخطابة المنمّقة، لكنه يشبهنا. يشبه الغضب المقدّس. يشبه الحقيقة كما هي: موجعة، مشوشة، ولكنها حقيقية.
ذلك الصوت كان… ويليام نون.
مرت خمس سنوات على الانفجار الذي لم يهزّ بيروت فقط، بل زلزل كل ضمير حرّ في هذا الوطن المنهوب. خمس سنوات ونحن نعدّ الأيام لا لشيء، بل فقط كي لا ننسى.
ويليام، لم ينسَ.
لأنه لا يستطيع أن ينسى.
لأن هناك أخًا له اسمه جو نون، سقط شهيدًا بين آلاف الزجاجات المتطايرة، وسكن بين شقوق الجدران وذاكرة أم مفجوعة.
من هناك، من حضن الألم، نهض ويليام، لا ليكون بطلًا، بل ليبقى حيًا باسم من رحلوا.
قد يصرخ ويليام، نعم.
قد يزلّ لسانه أحيانًا، وقد يتجاوز المألوف في تعابيره، لكنه لم يزوّر وجعه، ولم يبع دم أخيه.
هو لم يدخل المعترك السياسي، ولم يدّعِ النقاء الكامل، لكنه أيضًا لم يقايض الحقيقة على طاولة تسويات.
هو من الناس، وللناس، ومن حق الناس أن تخطئ وتتعثر… لكن لا أحد يحق له أن يخون الحقيقة التي يحملها ويليام في صدره.
قال البعض إنّه تجاوز حدوده.
لكن ماذا عن حدود الدولة التي صمتت؟
ماذا عن القضاء الذي عمّده بعض القضاة بالخنوع؟
ماذا عن حكومات توالت، ولم تأتِ بعدالة واحدة لأم ثكلى أو طفل فقد والده؟
إذا كان هناك من تخطّى حدوده، فليس هو… بل الدولة التي خانت أبناءها.
في الوقفة التضامنية الأخيرة في الذكرى الخامسة لانفجار المرفأ، قال ويليام ما قاله من وجعه، لا من خلفية سياسية.
قاله من دموع أمّه، لا من أجندة حزبية.
من قلبه المكسور، لا من دفتر حسابات انتخابية.
الناس الذين ينتقدونه، لم يذوقوا طعم الخسارة كما ذاقها.
لم يسمعوا أزيز الإنفجار يتردّد في جدران الذاكرة.
ولم يقفوا كل يوم أمام قبر شقيق، يبحثون فيه عن حياةٍ أُطفئت بلا حق.
أنا لا أكتب هنا دفاعًا عن شخص، بل عن حقه في أن يصرخ.
في وطنٍ يُمدح فيه الصامتون، ويُخوَّن فيه الصادقون، يصبح الصراخ تهمة… لكنّه تهمة الشرف.
أنا مع كل من يواجه.
مع كل من لا يخاف أن يُساء فهمه مقابل أن يُنصت إليه.
مع من يصرخ، لا من يصمت ليرضي الجميع.
وأنا معك، ويليام نون، لأنك قلت ما لا يجرؤ غيرك على قوله، حتى لو لم يكن قولك سياسيًا بامتياز… لكنه إنساني حتى الصميم.
أكتب عن ويليام، وفي بالي جو، ذاك الشاب الذي عرفته جيدًا، وكان لي أكثر من صديق… كان أخًا. فمن يعرف جو، لا يمكن إلا أن يشعر بقلب ويليام، ويدعمه في صراخه النبيل.
في هذا الوطن المختنق بالكذب،
أنت تمثل الوجه المكشوف للحقيقة،
اليد المرتعشة من الوجع،
والضمير الذي ما زال يرفض أن ينام.
تابع…
حتى إن أخطأت الأسلوب، فالحقيقة لا تحتاج أنيقة في لغتها.
وإذا كنت تصرخ أحيانًا بحدة،
فذلك لأنك تحاول أن توقظ من قرروا النوم على وسادة دماء أحبّتك.
لا تنكسر،
ولا تُصغِ كثيرًا لمن لم يدفن أخاه،
ولا تبرّر كثيرًا لمن لم يضع صورته على صدره،
ولا تتراجع أمام الذين جعلوا من السياسة درعًا لحماية المجرمين.
الصوت الذي خرج من صدرك، لم يكن يحتاج إذنًا.
هو خرج لأن الوقت لم يعد يحتمل انتظارًا.
هو صوت أخيك، وصوت كل من ما زال يحلم بعدالة في وطن لا عدالة فيه.
وأختم لأقول:
ربما لا تكون السياسة مدرستك،
لكنّ الألم كان معلمك،
وهو خير معلم،
لأن من تعلّم في مدرسة الوجع، لا يكذب.
امضِ،
فحتى إن صرخ الآخرون ضدك…
هناك من يسمعك لأنك لم تساوم.
وهذا وحده، يكفي.
بقلم الدكتور جيلبير المجبر