
همسة حق في آذان صائغي الدستور السوري الجديد (٣)* ✍️ بقلم :الأستاذ الدكتور رأفت محمد رشيد الميقاتي
🔴لا يختلف عاقلان على أهمية الحفاظ على وحدة الشعب بعد تحريره من جلاديه ، وعلى وجوب تلافي إثارة أية انقسامات يتمناها أعداء الشعب وكرامته الإنسانية .
🔴ولا يختلف عاقلان أيضا على أن تحرير الدستور هو أهم من تحرير البلد نفسه من نظام الاستبداد والاستعباد والطائفية البغيضة والمذهبية الرعناء والحزبية العمياء كالنظام الأسدي المخلوع .
🔴وحين تم تعديل المادة الثامنة من الدستور السوري التي تنص على أن حزب البعث العربي الاشتراكي هو القائد للدولة والمجتمع ، ظن بعض المتابعين أنها خطوة تصحيحية ، لكن الحقيقة كانت أن قائد الدولة والمجتمع لم يعد الحزب بل عصابة أصغر ، ثم ميليشيات مستوردة تتعاون معها على الإثم والعدوان ..ولا قيمة للدستور .. هذا إن قرأوه قبل أن يمزقوه بنعال التوحش والقتل الجماعي والجرائم ضد الإنسانية والسجون الدموية والقصف بالبراميل والكيماوي والحصارات المتعاقبة والتجويع المنظم لعدد من المدن والقرى حتى أُكلت الميتة باسم مكافحة الإرهاب ودحر الثورة!!
🔴واليوم وبعد سقوط النظام الأسدي ، يكثر الحديث عن كتابة دستور جديد ، وتكثر أمواج التهويل والتهديد والوعيد ، وعروض الترغيب والترهيب للتحكم بالاتجاهات الفكرية للدستور العتيد .
🔴إن سوريا ليست فرنسا العلمانية ولا سواها من الدول الأوروبية ،وإن سوريا ليست تونس بورقيبة ولا سواها من الدول العربية .
🔴وإن سوريا وعاصمتها العريقة دمشق هي عاصمة الحضارة الإسلامية المشرقة من الصين إلى المغرب ، وليست مجرد واحة اقتصادية وفيرة مدرارة ، ولا رصيفا تجاريا ، ولا ميناء بحريا ، ولا حقل نفط وممر أنابيب غاز من الشرق في الخليج إلى أوروبا الباردة ، بل إنها قلب العالم الإسلامي الذي اتسع لكل الطوائف والمذاهب في ظلال حضارة التعددية وألوان الملل والنحل .
🔴ولذلك ، فإن ما يسري على دساتير كثير من الدول لا يمكن إسقاطه بالضرورة على دستور سوريا الجديد نسخا ولصقا .
🔴نعم ، يتطلع مئات الملايين من مناصري الثورة السورية حول العالم إلى سوريا الجديدة الحرّة ، ولن تكتمل الحرية إلا بتحرر دستورها الجديد من القوالب النمطية الآحادية التي يضغط الغرب وملحقاته في الشرق لإلزامها به ، وفي طليعتها : النص على العلمنة ، ومنع النص على دين الدولة ، وحظر كنوز الفقه الإسلامي من مصادر التشريع ، واستبعاد النصوص الضامنة للأسرة والفطرة عند المسلمين والمسيحيين على السواء ، وتكريس الفوضى القيمية ، وبعد كل تلك الإكراهات الخارجية ومصادرة الحرية الدستورية ، تتبارى تلك الجهات في الحديث عن إتحافنا بالحديث عن الحريات ومعزوفة الأقليات والتمادي في المزايدات ..وهي التي صمتت عن كل الارتكابات عقودا .. وكان بعضها مؤيدا وشريكا فيها !
🔴إن أول صفة مطلوب توفرها في الهيئة التي تصوغ مشروع الدستور الجديد هو خلوّها من آفّة الأميّة الحضارية ، ومن مرض الرُّهابِ من الإسلام الحنيف “إسلاموفوبيا”، وكذلك خلوُّهُا من مرض فقدان الذاكرة بحيث بات لا يذكر نجاح الحكم العادل في العالم الإسلامي على مدى قرون ، وخلوها من كورونا الجهل بحقائق التاريخ والجغرافيا وعلم الاجتماع القانوني ،وخلوها من مرض فقدان المناعة التشريعية المكتسب والذي نسميه “بالإيدز التشريعي “، بحيث يقوم المصاب به بنقل عدواه الخطيرة إلى الجسم التشريعي كله ، وهو يحسب أنه يحسن صنعا !!.
🔴إن النص على هوية الدولة ومصادر التشريع له قيمته الميثاقية والدستورية ويعبّر عن الرمزية الفاعلة والمتفاعلة -لا المحنّطة – للعمران الإنساني في منظومة حكم معاصرة .
🔴وإن كيلَ الاتهامات الجزافية على الحفاظ على الهوية الحضارية والقيمية والثقافية في الدستور ، والزعم بأنه لون من ألوان التطرف والتضييق والتخلف ، مردود بكل موضوعية على مطلقيه ،
فدساتير عدد من الدول كمصر والأردن والجزائر قد نصت على ذلك بصيغ مختلفة مدارها دين الدولة الإسلام أو هو الدين الرسمي للدولة ، بل إن المغرب نص دستوره على أن المملكة العربية دولة إسلامية ذات سيادة كاملة ، وكل تلك الدول تحتضن التنوع الديني بكل مكوناته .
🔴ومهما قيل في الجانب الآخر من الحراك الفكري بأنه ما قيمة مثل هذا النص ، فإننا نؤكد أن هذا النص وإن لم تتم الإفادة من قيمته في بعض البلاد في المجال التشريعي على النحو الصحيح ، فإن هوية الدولة في المجال الدستوري هي بمثابة النّسب في المجال الفردي ، فلا يملك الإنسان تغيير نسبه وإن لم يصِل رحمه .
🔴إننا نذكر الجميع بضرورة استحضار مضمون البيان التاريخيّ الذي أعلنه العلامة الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله لدى وضع الدستور السوري عام ١٩٥٠ حول جعل دين الدولة الإسلام والأسباب الموجبة لذلك وتفنيد الشبهات التي تثار تفنيدا علميا وموضوعيا مع المقارنة بما عليه العمل في الدساتير الغربية وموقع الدين منها ، مع التأكيد على تميز شمول الدين الإسلامي الحنيف لمساحات التشريع الواسعة بما يغطي الفراغ التشريعي القائم لدى سائر المكونات الأخرى .
🔴إن ما عانت منه شعوب دول كثيرة – وفي مقدمتها الشعب التركي الشقيق – جراء إجبارها في لحظة تاريخية وعسكرية قاسية على الانسلاخ من هويتها الحضارية الإسلامية ، يجدر أن لا يتكرر مع فارق الظروف والمكان والزمان ، بل إنها اللحظة المناسبة لقيام الشعب السوري المؤمن بتصحيح المسار في دولته لما فيه خير الأمة جمعاء ، بدل أن تكون لحظة تسلل فكري وتشريعي لأجندات دولية ، تجود من جهة بالأموال للإعمار ، وتكمل هدم ما بدأ به حافظ وبشار .