
دور الإعلام إرشادي وتصويبي ونقدي لاتسويق الأحداث \ أسامة إسماعيل
إختصاص الإعلام والصحافة يتعلق بالنشر والتواصل والإعلان، وللوهلة الأولى، يظن الكثير من الناس أن هذا الإختصاص لايتناسب مع ذوي الشخصية الإنطوائية أو التي تميل إلى العزلة، والذين يتكلمون مع أنفسهم أكثر مما يتكلمون مع الآخر، ولكن بعض الأبحاث والدراسات العلمية على أن الكتابة هي نوع من الكلام مع الذات، وهي اتصال غير مباشر مع الآخر خلافا”للكلام الشفهي وهو اتصال مباشر مع الآخر، وبالكتابة يستطيع المتخصص بالإعلام والصحافة الإمتناع عن نشر الكثير من الكلام والآراء التي يقولها لنفسه. فالأسرار الفكرية والمهنية مثل الأسرار الشخصية لايباح بها لأي كان، فكيف الحال بالكتابة المعدة للنشر في وسائل الإعلام والتواصل؟
الكتابة هي فعل فردي عقلي لااجتماعيا”، بشرط أن تنطلق من التفكير العقلي لاالتفكير العاطفي والمعتقدات الجماعية الجاهزة والجامدة، لذلك لايستطيع الكاتب الصحافي والمثقف النخبوي الحر المستقل أن يؤيد كل مايؤيده المجتمع من معتقدات وآراء ومناسبات وعادات وطقوس وسياسات وقرارات. وليست الصحافة ملازمة للسياسة الآنية والإنتخابات والأزمات والحروب، حيث أن السياسة الآنية والإنتخابية فعل إجتماعي وإيديولوجي وعاطفي وشعبي ومصلحي،فيكون دور الكاتب الصحافي والإعلامي الحقيقي أوسع من نقل وقائع السياسة الآنية والإنتخابات والحروب والأزمات وتسويقها والتعليق عليها وتحليلها ليمتد إلى الفلسفة والنقد والعلوم،فيضع الأحداث والجزئيات في نطاق أوسع وأشمل. فمثلا”:الأزمة المالية النقدية الإقتصادية التي بدأت في تشرين الأول ٢٠١٩،والحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان ليستا جزئيتين منفصلتين عن قضايا شاملة مثل :غياب الدولة المدنية القوية والزعيمة غير المرتبطة بالخارج، ورسوخ النظام الديموقراطي الإنتخابي العددي الطائفي الحزبي وحالة القطيع الإجتماعي والشوائب المذهبية والإيديولوجية والإجتماعية واللعبة الدولية الإقليمية، وكلها عوامل تؤدي إلى أزمات وحالات عدم استقرار وحروب. وإن الصحافي أو المثقف النخبوي الحر المستقل الناقد في مقالاته وتعليقاته وآرائه ينطلق من عقله وإرادته الفرديين لامن معتقدات وآراء وعواطف جماعية تسمى خطأ”العقل الجمعي” أو “الرأي العام”. فمثلا”:إذا كانت الأكثرية تؤيد معتقدات ومناسبات وعادات تقدّس أشخاصا” وتقدم الولاء والفداء لهم فهو يرفض وينتقد ماتؤيده، وإذا كانت الأكثرية في مكان ما تؤيد إتفاق سلام وتطبيع مع الكيان الإسرائيلي دون أن تؤخذ أو تسترد الحقوق منه فهو يرفض هذا الأمر وينتقده، وإذا كانت الأكثرية تؤيد فتح جبهة حرب ضد هذا الكيان، ضررها أكثر من نفعها فهو يرفض ماتؤيده وينتقده، وحكما”، يرفض التبعية والتأييد وينتقد من يقود هذه الأكثرية أو الجمهور أو يؤثر فيها.
إن معظم وسائل الإعلام والتواصل في لبنان لاتفتح أبوابها للصحافي والمثقف النخبوي الحر المستقل الناقد لأجل الوظيفة وفرصة العمل أو المنصب والدخل المالي، فهي لاتوظف ولاتعين إلا المساير للجمهور والقطيع الإجتماعي والسياسيين ومن يسمون “الزعماء” والأحزاب والسلطات الدينية المذهبية. ولا يقبل في معظم وسائل الإعلام والتواصل الا من هو مستعد للانخراط في لعبة التسويق للسياسيين والأحزاب والدول الخارجية الداعمة لهم والأزمات والحروب والضجيج المسيّس والإنتخابي، ولأجل هذا التسويق والترويج يستضاف المحللون والمعلقون على الأحداث على مدى الساعات عبر محطات التلفزيون المحلية ويظهرون كأنهم يعرفون كل شيء ويتوقعون للأحداث المقبلة رغم أنهم أنفسهم لم يتوقعوا مسبقا”للأحداث الحالية التي يحللونها، ولاينسى هؤلاء مديح من أوصىلهم إلى المناصب والوظائف الإعلامية والشهرة وهجاء خصومهم. فمسايرة الجمهور أو القطيع الإجتماعي والتملق له مع التبعية أو التودد لسياسيين وأحزاب وسلطات دينية مذهبية بدوافع مصلحية وتجارية وعاطفية وعقائدية تجعل معظم وسائل الإعلام والتواصل المحلية بعيدة عن القيام بدور نخبوي تثقيفي وإرشادي وتصويبي وناقد وتغييري بل إنها تنخرط في المعمعة التي يريدها السياسيون والأحزاب وبعض الدول الخارجية. فمعظم وسائل الإعلام سوقت أزمة تشرين الأول ٢٠١٩ ولم تقم بالدور الذي يرشد ويثقف ويصوب الأمور كي لاتتفاقم هذه الأزمة، وكذلك لم يقم بتصويب طرق مواجهتها ومعالجتها فاستمرت حتى اليوم بنتائجها المالية والنقدية والإقتصادية والإجتماعية السيئة جدا”على الصعيدين الخاص والعام. ومعظم وسائل الإعلام والتواصل لم تقم بإرشاد المعني بالموضوع إلى أن فتح جبهة إسناد غزة يضر أكثر مما ينفع، سواء كانت هذه الوسائل تابعة أو حليفة أو معارضة لهذه الجهة المعنية بالموضوع، وسايرت الجمهور أو القطيع الذي أيد هذا القرار أو لحقته. ولوقامت بهذا الدور الإرشادي والتصويبي لكان يمكن تفادي الوصول إلى هذه الحرب المدمرة ونتائجها السيئة على البشر والحجر والإقتصاد وسوق العمل والنفس، وخاصة أن مرحلة مابعد عملية غزة في ٧تشرين الأول ٢٠٢٣ تختلف عن ما قبلها، حيث أن الكيان الإسرائيلي بدا أكثر تفلتا”من الضوابط و القواعد المتعلقة بالحرب. وبدل توجيه الإهتمام في وسائل الإعلام والتواصل إلى من هو منتصر ومن هو منهزم في هذه المواجهة أو الحرب حيث لامنتصر ولامنهزم، يجب توجيه الإهتمام إلى التصويب والإرشاد كي لاتتكرر الأخطاء والكلفة ذاتها، وخاصة أنه لاحل نهائي مع الكيان الإسرائيلي بل اتفاقات وقف إطلاق نار.
في ما يسمى “بروتوكولات حكماء صهيون” :”سنمنع أي تأثير سيء للصحافة المستقلة”. وفي الواقع، إن دور الصحافي والمثقف النخبوي الحر المستقل الناقد مهمش بل مغيب، ولا دور سائد إلا لمن يسير في القطيع الإجتماعي، والتابع والحزبي والطائفي والشعبوي والسطحي والمتملق الذي يسكت عن عيوب النافذين والمسيطرين وأخطائهم وكذلك عيوب المجتمع أو القطيع الإجتماعي وأخطائه وسيئاته.
أسامة إسماعيل