مقالات

عندما تتحوّل الرتبة إلى منصة استعراض \ د. زياد منصور \ المصدر : https://beirut2030.me/?p=3039

كان الانضباط في أساس وبنية العقلية العسكرية منذ نشوء الدولة اللبنانية الحديثة. فمنذ استقلال لبنان عام 1945، تَرسّخ الانضباط بوصفه جزءاً من الهوية المؤسسية للقوى العسكرية والأمنية على اختلافها؛ إذ جرى تأطيره ضمن شعارات واضحة لا لبس فيها، ولم تكن مجرد كلماتٍ معلّقة على الجدران، بل مبادئ سلوكية تُمارَس في الصمت العسكري والانضباط الشكلي والطاعة التسلسلية الصارمة، والأهم: الامتناع التام عن أي نشاط أو نقاش سياسي.

كنتُ طفلاً حين لم أكن أفهم لماذا ينسحب قريب والدي كلما احتدم النقاش السياسي في الجلسات العائلية، أو لماذا كان آخر يكرر جملته الشهيرة: «من فضلكم، لا سياسة… ولا شبه سياسة!». لاحقاً أدركتُ أنّ الجندي والدركي والضابط والرقيب والرتيب، كانوا يخشون أن يُنسب إليهم انتماء حزبي أو موقف سياسي قد يُعدّ خرقاً لشرف السلاح. فالعزوف عن السياسة لم يكن تفضيلاً شخصياً، بل التزاماً أخلاقياً وقانونياً تفرضه المؤسسة.

كان المظهر العسكري — من البزة والهندام إلى طريقة الوقوف والمشي — معياراً صارماً تُحاسِب عليه الأنظمة الداخلية بدقة، لأنّ هيبة المؤسسة تبدأ من هيبة المنتسب إليها. وفي خمسينيات وستينيات القرن الماضي، كان رجل الأمن والجندي والشرطي يخضعون لنظام تأديبي مستمد من قانون الدفاع الوطني (المرسوم الاشتراعي 102/1983 لاحقاً) ومن قانون العقوبات العسكرية (1958)، اللذين يمنعان أي نشاط سياسي، ويعتبران الانتماء الحزبي أو الترويج السياسي مخالفة خطيرة تمسّ شرف المؤسسة.

لم يكن الضابط أو الجندي يجرؤ على الخوض في السياسة حتى داخل منزله، خشية سوء الفهم أو الوشاية. وكان بعضهم يتجنّب حتى زيارة أقارب معروفين بانتماءاتهم اليسارية أو العقائدية، لأنّ أي احتكاك من هذا النوع كان قد يترك أثراً خطيراً على مسيرته المهنية.

بعد الحرب… تغيّر المشهد جذرياً

مع نهاية الحرب الأهلية (1975–1990) وتطبيق اتفاق الطائف، تغيّرت بنية الدولة اللبنانية بعمق، وبدأ منطق التوازنات السياسية يتداخل مع المؤسسات العسكرية. ومع الوقت، ظهرت أشكال جديدة من السلوك لم تكن معهودة سابقاً، أبرزها:

بروز الولاءات السياسية والطائفية داخل بعض المربعات المهنية.
استخدام بعض المنتسبين السيارات العسكرية لأغراض شخصية.
استغلال الرتب لفرض وجاهة اجتماعية أو لتسويق الذات في المناسبات العامة.
تحوّل حفلات الترقّي أحياناً إلى مهرجانات استعراضية بدل أن تكون تكريماً للتضحية والانضباط.

وزاد الأمر سوءاً حين بدأت بعض عائلات المنتسبين تستغلّ قربها من «ابن الدولة» لاستعراض النفوذ: زوجات وأبناء وأقرباء يوظفون الرتب لإتمام معاملات شخصية، يستخدمون الوسائل الرسمية لخدمة مصالح خاصة، ويحوّلون لقب «السيد الضابط» إلى نوع من الاستقواء الناعم. وهكذا نشأ تدريجياً فارق طبقي داخل المجتمع نفسه: المنتسب إلى المؤسسة العسكرية ومن حوله، في مقابل المواطن العادي.

ثم ظهر عامل جديد… أخطر وأعمق تأثيراً

مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، تحوّل بعض أفراد المؤسسات العسكرية إلى من يمارس عرضاً يومياً لرتبه ومواقعه، عبر صور ومقاطع تُظهر البزّة أو النياشين أو السيارات الرسمية، أو حتى نشر تفاصيل عن الترقّيات والتنقّلات. هذه الظاهرة — التي تبدو بسيطة من الخارج — تحمل:

خطراً مهنياً، لأن الانضباط العسكري يقوم على الصمت والتحفّظ وعدم تسليع الرتبة أو تحويلها إلى مادة للعرض.
خطراً أمنياً بالغاً، إذ تُتيح هذه المواد للأجهزة الاستخباراتية الأجنبية جمع معلومات حساسة بدقّة فائقة: أنماط التنقل، مواقع الثكنات، طبيعة المهمات، الوجوه والرتب… وهو أمر بالغ الخطورة في بلد محاط بشبكات استخبارية تراقب كل تفصيل يخص الجيش والأمن، بل تدخل في نسيج حياتنا الدقيقة.

لم نكن نرى، البتّة، في العقود الماضية أن استقبال الضابط المتخرّج من الكلية الحربية يتمّ بوابلٍ من الرصاص والأهازيج. كانت الترقية آنذاك لحظة وقارٍ وصمتٍ عسكري، أكثر مما هي مناسبة للاحتفال الصاخب. أمّا اليوم، فقد بات إطلاق النار العشوائي يتكرّر بوصفه «مظهراً من مظاهر الفرح»، وهو وإن عبّر عن صدق المشاعر وحماسة الأهل، إلا أنّه يحمل في ذاته بلاءً وخطراً على الآخرين، ويكشف من حيث لا نقصد عن تحوّل جوهري في فهمنا للرمزية العسكرية: من رمز الانضباط والالتزام بالقانون، إلى فعل احتفالي غير منضبط، قد يهدّد سلامة الناس ويتعارض مع معنى الرتبة ذاتها.

هذا السلوك — مهما بدا بريئاً أو «عفوياً» — يشير إلى تحوّل عميق في الثقافة العامة: ثقافة تميل إلى استعراض القوة بدل تجسيد المسؤولية، وإلى الاحتفال بالرتبة بوصفها وجاهة اجتماعية لا بوصفها تكليفاَ وطنياً يقتضي الصمت.

الامتيازات غير المتوازنة… وتآكل العدالة داخل المؤسسة

من أبرز مظاهر التدهور في الانضباط المؤسسي هو توسّع الامتيازات التي لا تستند إلى الاستحقاق، بل إلى العلاقات، مما خلق بيئة يشعر فيها البعض بأن الرتبة تمنحهم حقاً في امتياز اجتماعي أو طبقي. يصبح المنصب العسكري سبباً للتفوق والتباهي، لا مسؤولية وخدمة عامة. وهذا يُضعف ثقة المواطن بالمؤسسة، ويقوّض العدالة الداخلية، ويخلق إحباطاً لدى الكفاءات التي تُستبعد لصالح أصحاب الواسطة.

ولكن… هل أصبحت المشكلة ظاهرة؟

ربما لا تزال هذه السلوكيات فردية ومتفرقة، وليست سمة عامة للمؤسسات. لكن الخطر يكمن في أنها إذا لم تُضبط الآن، ستتحول إلى ثقافة تستنزف روح المؤسسة، وتحوّل الانتماء العسكري من شرف وتضحية إلى أداة نفوذ اجتماعي.

خطوات لا بد منها لاستعادة الهيبة:

تطبيق صارم وشفاف للقوانين التأديبية دون استثناء.
منع صارم لأي تدخلات سياسية أو حزبية في الشؤون المهنية.
ضوابط واضحة لاستخدام الموارد العسكرية ومنع استغلالها لأغراض شخصية.
ترسيخ مبدأ الاستحقاق في التوظيف والترقية.
برامج أخلاقية وتوعوية تشمل الضباط والعائلات معاً.
وضع قواعد صارمة لاستخدام وسائل التواصل الاجتماعي من قبل العسكريين والمنتسبين، حمايةً للهيبة وحمايةً للأمن الوطني.

الحقيقة الثابتة

الجيش والمؤسسات الأمنية هي الملاذ الأخير للدولة ورمز سيادتها. وإذا فقدت انضباطها، فقدت الدولة ثقة شعبها.

في الجيوش والمؤسسات المولجة بالأمن، فإنه، وكقاعدة عامَّة، ليس كل من حمل رتبةً عسكرية نالها بجدارة؛ في بلدان الانضباط والسمو والهيبة العسكرية وارتفاع مستوى الحس الوطني يستحقها فقط من عمّدها بالتضحية والانتماء والدم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى