
مقاربة سُنّة لبنان لأحداث السويداء \ د. سمير حسن عاكوم \ المصدر اللواء
في ظل التحوّلات العميقة التي تشهدها سوريا وآخرها أحداث السويداء تبرز الحاجة إلى قراءة موضوعية لموقف الطائفة السنيّة في لبنان، لا من باب التموضع الطائفي أو الاصطفاف السياسي بل من منطلق استعادة دور هذه الطائفة كفاعل وطني وعربي ارتبط تاريخياً بمنهج وسطي عقلاني يتجسّد في مدرسة الإمام الأوزاعي رافضاً للتطرّف ومنفتحاً على الشراكة الوطنية والعربيّة والإسلامية في آن.
ليست بمهمةً سهلة أن يتحدث ابن الشوف من الطائفة السنيّة عن تطورات السويداء من موقع الصراحة لا الاصطفاف، خاصة في ظل تصاعد الخطاب الانفعالي داخل البيئة الدرزية الكريمة. تلك البيئة التي تجمعنا بها قرون من العيش الواحد، من عاليه الى برجا ومن بقعاتا الى شحيم وكل قرانا وبلداتنا حيث تفاعلت العائلات الدرزية والسنية في نسيج اجتماعي متين ومتكامل على أكثر من مستوى خلف رموز وطنيّة في طليعتها شكيب أرسلان وكمال جنبلاط.
لكنّ الجراح لا تبرر الصمت والصراحة لا تعني الخصومة، فما حدث في السويداء مؤلم وهو تطوّر خطير وطبيعي ضمن سياق تراكمات المرحلة الماضيّة ينبغي مقاربته بجُرأة ووعي مع الأحداث اللبنانيّة لا بعصبية أو تشفٍّ. لبنان الذي خَبِر مرارة الفتن الطائفية وذاق ويلات الحرب يُفترض أن يكون أكثر شعوب المنطقة قدرةً على التبصّر وقراءة المشهد السوري بعمق لا بعاطفة.
من أبرز أوجه خلل مقاربة السُنّة والدروز للأحداث السورية خضوعهم لمنظومات إعلامية لا يملكون منها شيئاً سوى دور المتلقّي. فمن بين عشرات المحطات والمنصات اللبنانيّة المحتكرة للإعلام لا يملك أي من الطرفين محطات تلفزيونية ولا منصات إعلامية مستقلة تعبّر عن وجدانهم. وبين ماكينة الضخ الإعلامي الإسرائيلي التي خصصت مليارات الدولارات لتوجيه الرأي العام في سوريا ولبنان والتمدد الإعلامي الإيراني المحترف وسيطرة محطات إعلاميّة خاصة تستفيد مما يحصل لتقديم منطق إمتيازات الساديّة الطائفيّة وتحقيق المكاسب الماديّة وترفع شأن المنتفعين من الإستثمار بالفتنة تاهت البوصلة، وارتفع منسوب العصبيّة المتعارضة مع تاريخنا وثقافتنا. وتحوّل النقاش المحلي إلى مجرد صدى لمصالح إقليمية لا تُعير لمستقبلنا وللبُعد الإنساني والوطني أي اعتبار.
إن صناعة الرأي العام ليست عَبَثاً ولا انفعالاً بل علم واستراتيجية وتمويل ممنهج. ولهذا ينبغي التنبّه إلى الأفخاخ الإعلامية التي توجّه الخطاب الطائفي نحو الخصومة المفتعلة بين السُنّة والدروز، بينما الحقيقة أن كلا الطائفتين حاربتا معاً التهميش والحرمان نفسه ضمن نظام الإمتيازات الفوقيّة ولعقود.
ما يجري في السويداء مؤلم. وهو بقدر ما يحمل طابعاً أمنياً وسياسياً، يُذكّر اللبنانيين بمشاهد سوداء من الحرب الأهلية حين اختلط دم مئات العمال الأبرياء المسلمين في «السبت الأسود» عام 1975 بدم الأبرياء المسيحيين بعد اغتيال كمال جنبلاط وحرب الجبل، وبدماء المدنيين في صبرا وشاتيلا بعد اغتيال الرئيس بشير الجميّل. نعم لم يكن الإرهاب يوماً حكراً على طائفة دون أخرى ولا العنف ابن بيئة دون سواها، فما جرى في زغرتا وكسروان واهدن من اقتتال بين الأشقاء الموارنة أو بين الشيعة في مواجهات أمل وحزب الله يُثبت أن التطرف هو نتاج منظومة سياسية مأزومة متحكمة وأطراف تستعين بالخارج ضد أخوتها لا نتاج هوية طائفيّة بحد ذاتها.
ولذلك فإن أي محاولة لربط السُنّة بأحداث العنف في السويداء هي محاولة ظالمة وخطيرة. فالطائفة السنيّة ومنذ عقود التزمت خيار الدولة ومشروع المؤسسات. ورغم المآسي والتهميش التي تتعرّض لها لم تنجرّ إلى خطاب الإلغاء أو الثأر الطائفي. يرتكز خاصيّة الوجدان السنّي اللبناني على منهج الإمام الأوزاعي الذي أسّس مدرسةً قائمة على العقل والاعتدال والاستقلال الفكري والسياسي. فمنذ أكثر من 13 قرناً كان الأوزاعي يحاور الخلفاء والولاة، يدافع عن المظلومين من المسلمين والمسيحيين ويواجه السلطان بكلمة الحق لا بمنطق العنف أو الولاء الأعمى ويبني أسس العقلانيّة والفكر في مدرسته المستقلة من بيروت. هذه المدرسة هي التي تحفظ الطائفة وغيرها من الانزلاق إلى مشاريع العنف أو التطرف، وهي التي تمنحها القدرة على أن تكون شريكاً جامعاً في الوطن لا طرفاً طائفياً في نزاع العصبيات.
يخطئ من يظن أن الطائفة السنيّة في لبنان تريد الانخراط في صراعات الداخل السوري أو تأييد طرف ضد آخر. ما يهمّ هذه الطائفة هو استقرار سوريا ودورها العربي ووحدة شعبها وأن تكون علاقتنا معها مشابهة لعلاقة أي بلد مع الآخر ضمن الاتحاد الأوروبي. لكن من حقّها بل من واجبها أن ترفض عودة المنطق الأمني القديم الذي حكم سوريا عقوداً أو تُستنسَخ فيها نمط حكم الميليشيات ومحاصصاتهم التي دمّرت لبنان وأوصلتنا الى ما وصلنا إليه. وتدعو في المقابل إلى مصالحة وطنية شاملة تضع حدّاً للتهميش السياسي والطائفي لأي طرف والسير بانفتاح سوريا على كل العالم وتعيد الاعتبار لحكم الدولة المدنية العادلة والمزدهرة.
وفي هذا الإطار فإن محاولة تصوير الطائفة الدرزية كضحية وحيدة أو كطرف منفصل عن تفاعلات المشهد السوري فيها الكثير من الظلم. فالكلّ خسر والجميع ضحية وخسارة أي درزي أو عشائري هي خسارة لنا جميعاً، لكن لا خلاص إلّا بإيقاف فتنة الاتهام والتخوين والإنسياق الى التوجيه الإعلامي المدمّر والعودة إلى منطق العقل والحوار البنّاء والتكامل الواعي والإصرار على دولة الحقوق والحريات المسؤولة في سوريا كما في لبنان.
ما يحتاجه لبنان وسوريا والمنطقة ليس خطوط تماس مذهبية جديدة على شاكلة ممر «داوود» بل مشاريع تعاون وتنمية شاملة تربط بيروت بدمشق وطرابلس بحمص وصيدا بدرعا وبعقلين بالسويداء. وسُنّة لبنان الذين خسروا الكثير في سبيل الدولة لا يسعون اليوم إلى ثأر ولا إلى سلطة ومحاصصة بل إلى وطن جامع يحتضنهم كما يحتضن شركائهم من الدروز والموارنة والشيعة والأرثوذكس والعلويين وسائر المكوّنات.
أحداث السويداء محطة مؤلمة لكنها قد تكون فرصة لإطلاق نقاش وطني حقيقي نواته السُنّة والدروز والأرثوذكس وكل من يرفض منطق الإمتيازات، يتجاوز هذا الحوار الطوائف والمناطق ويعيد الاعتبار إلى منطق الدولة العادلة التي تحمي ولا تقمع توحّد ولا تُقَسّم. فلتكن رسالة سُنّة لبنان كما أرادها الأوزاعي صوتَ الحكمة لا صدى الكراهية، ولنحذر جميعاً من إشعال فتنة لن ينجو منها أحد ولننتقل الى عنوان حيّ على خير العمل الوطني والإنساني البنّاء.