مقالات

قراءة في خطاب أبو عبيدة: رسائل المقاومة بين الوضوح والترميز \ بقلم عماد العيسى

في أول ظهور له منذ شهر مارس/آذار الماضي، خرج أبو عبيدة، الناطق العسكري باسم كتائب القسام، مساء 18 يوليو 2025، بكلمة مسجّلة لخصت ملامح المرحلة الحالية من معركة المقاومة في قطاع غزة، وسلّطت الضوء على إستراتيجياتها، وأعادت توجيه رسائلها إلى أطراف متعددة محليًا وإقليميًا ودوليًا.

الكلمة، التي تأتي في ظل اشتداد الحرب على غزة، وحالة استعصاء سياسي ترافق المفاوضات غير المباشرة، لم تكن مجرّد خطاب حربي تقليدي، بل حملت في طياتها جملة من الرسائل المركبة التي تراوحت بين الوضوح والتلميح، في مزيج مقصود من التأثير والضغط النفسي والإعلامي.

أولًا: رسائل مباشرة وصريحة

إلى إسرائيل:

بوضوح لا لبس فيه، أكّد أبو عبيدة أن المقاومة في غزة ما زالت قادرة على إيقاع الخسائر النوعية في صفوف جيش الاحتلال، مشيرًا إلى مئات القتلى والجرحى خلال أربعة أشهر فقط، إضافة إلى آلاف المصابين بأمراض نفسية. كما كشف عن محاولات متكررة لأسر جنود، ما يعيد للأذهان سيناريوهات الصفقات السابقة، ويُبقي الاحتلال في حالة استنفار دائم.

إلى الأنظمة العربية والإسلامية:

لعلّ الرسالة الأكثر حدّة كانت موجهة إلى قادة وزعماء الدول العربية والإسلامية. إذ قال أبو عبيدة حرفيًا إن “رقاب قادة الأمة ونخبها وعلمائها مثقلة بدماء عشرات آلاف الأبرياء”، معتبرًا أن الصمت والتخاذل شكل من أشكال المشاركة في الجريمة. وبهذه العبارات، أخرج الخطاب من دائرة العتاب الدبلوماسي إلى إدانة أخلاقية وسياسية وشرعية صريحة.

إلى العملاء:

في ختام كلمته، وجّه أبو عبيدة تحذيرًا واضحًا إلى “العملاء”، داعيًا إياهم إلى التوبة، ومشيدًا بمواقف العشائر الفلسطينية التي تبرأت منهم. وهي رسالة ميدانية محلية بامتياز، تهدف إلى ضبط الجبهة الداخلية وقطع الطريق على محاولات الاحتلال اختراق الصف الوطني.

إلى الوفد التفاوضي:

أكد أبو عبيدة دعم المقاومة الكامل للوفد المفاوض، مع الإشارة إلى أن المقاومة عرضت “صفقة شاملة” تشمل تسليم جميع الأسرى الإسرائيليين دفعة واحدة، ولكنها قوبلت بالرفض من قبل الاحتلال. وبهذا التصريح، حاول نقل الكرة إلى ملعب تل أبيب، وتحميل حكومتها مسؤولية فشل التقدّم في المفاوضات.

ثانيًا: رسائل غير مباشرة ومشفّرة

إلى الوسطاء:

رغم أن الخطاب لم يذكر مصر أو قطر صراحة، إلا أن الإشارة إلى عرض المقاومة لصفقة شاملة ورفض العدو لها، تحمل في طياتها نقدًا ضمنيًا لفعالية الوساطة، وتلمح إلى أن المقاومة لن تقبل مستقبلًا بالعودة إلى صفقات جزئية.

إلى الجمهور الإسرائيلي:

حين قال أبو عبيدة إن “نتنياهو هيأ الجمهور لتقبل فكرة مقتلهم جميعًا”، فقد كانت تلك رسالة نفسية موجهة بامتياز، تهدف إلى تفكيك الثقة بين المجتمع الإسرائيلي وقيادته السياسية والعسكرية، ووضع حكومة الاحتلال في موضع المتهم بالتفريط بأرواح الجنود الأسرى.

إلى السلطة الفلسطينية:

رغم الغياب الظاهري للسلطة في الخطاب، إلا أن العبارة: “لا نعفي أحدًا من مسؤولية الدم النازف” يمكن تفسيرها كإشارة إلى القيادة الفلسطينية الرسمية، التي لا تزال غائبة سياسيًا وميدانيًا عن مشهد الحرب، ما يضعها موضع التواطؤ أو العجز.

إلى فصائل الضفة والداخل:

حين قال أبو عبيدة إن غزة هي “أعظم مدرسة عسكرية”، كان يشير بوضوح إلى دورها الريادي في الكفاح المسلح، وكأنما يُطلق دعوة مبطنة إلى التحرك الشعبي والعسكري في الضفة والداخل، دون أن يصرّح بذلك صراحة، لأسباب قد تتعلق بالحسابات الميدانية أو السياسية.

إلى القوى الغربية:

في وصفه الداعم للعدو بـ “أقوى القوى الظالمة في العالم”، كانت الرسالة مزدوجة: إدانة واضحة، ولكن أيضًا تحذير مبطن من استمرار الدعم الغربي دون حساب لعواقب قد تتدحرج نحو التصعيد الإقليمي أو الفوضى الدولية.

ختامًا:

كلمة أبو عبيدة الأخيرة لا يمكن قراءتها بمنطق خطابي تعبوي فقط، بل يجب فهمها ضمن سياق حرب نفسية مركبة، تتقن المقاومة إدارتها كما تتقن إدارة الأنفاق والعمليات العسكرية. الرسائل المتعددة التي حملها الخطاب، سواء المعلنة أو المؤجلة، تُشير إلى أن المقاومة تسير وفق تصور إستراتيجي عسكري وسياسي متكامل، وتُصرّ على أن الصمت لم يعد خيارًا أخلاقيًا لأحد، وأن الخذلان لم يعد يمرّ دون تسمية.

لقد وجّه الخطاب البوصلة من جديد، وأعاد رسم معادلة المواجهة: “الدم في غزة لن يُنسى، والأسرى لن يُباعوا، والعدو لن يهنأ، والصمت لن يُغفر”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى