
كلمة د.سابا قيصر زريق بمناسبة إطلاق كتاب “طرابلس حاضنة الثقافة لكل الأزمان” الصادر عن دار جروس برس-ناشرون، قدم لها د.جان توما على النحو الآتي :
سُئِلَ: «من أشَعَرُ العربِ؟» قيلَ: «امرؤ القيس إذا رَكِبَ، وزهير إذا رَغِبَ، والنابغةُ إذا رَهِبَ، والأعشى إذا طَرِبَ، ( أَضِفْ) وسابا إذا رعى من كَتَبَ وتَعِبَ.” قيلَ : “بُدئَتِ الكتابةُ بعبدِ الحميد، وخُتِمَت بابن العميد.” كما جاءَ: “بُدئ الشّعرُ بأميرْ وخُتِمَ بأميرْ”، هذه الحدود الحبريّة أو الورقيّةُ تاريخٌ من نور، لذا نقولُ : طرابلسَ ، لكلِّ الأزمانِ، هي الكلمةُ كلمةٌ، تألّقَت بهيّةً مع شاعرِ الفيحاءِ سابا زريق وبانَ مجدُها التليدْ، وتتوهّجَ اليومَ دُررًا ونشرًا مع سابا زريق الحفيدْ.
كلمة د.سابا قيصر زريق :
أخواتي وإخواني،
لا بدَّ أن ناشرَ الكتابِ الذي يُطلِقُهُ اليوم كان مُدرِكاً، عندما تكرَّمَ بإتاحةِ فُسحةٍ لي لإلقاءِ كلمةٍ في هذه المناسبة، أن جَعبتي لا تفرَغُ ولن تفرَغَ يوماً من الكلماتِ الدَّسِمةِ بحقِّ فيحائنا، أنا الذي كنتُ قد لبَّيْتُ شاكراً طلبَهُ افتتاحَ الكتابِ بمقدِّمةٍ، وأدلَيْتُ بدَلوي كذلك بمناسبةِ اختتامِ احتفاليةِ نشاطاتِ تجمُّعِنا، الذي استعارَ الكتابُ عنوانَهُ من اسمِهِ، في أواخرِ السنةِ الفائتة. أيسعُني عدمُ الاستجابةِ وصدى وصفِ شاعرِ الفيحاء، رَحِمَهُ الله، لمدينتِهِ يطِنُّ في أذنيّ؟
“فيحاءُ أنتِ دمٌ
للبنانَ وأنتِ المغنــــــــــــــــــــمُ
وعرينةٌ عن ضيغمٍ
فيها توثّبَ ضيغــــــــــــــــــــــمُ
"
نعم، هي أمُّنا جميعاً؛ شغلَتِ القلبَ والعقلَ والذِّهنَ. فمهما قَرَضْنا فيها شِعراً أو كتبْنا فيها نَثراً، فنحن مُقصِّرونَ لا مَحال. تحوَّلَ إعجابي بها منذ نعومةِ أظفاري، ومع هَرولةِ الأيام، إلى حُبٍّ حقيقي، استحالَ عِشقاَ حلالاً، وهذا ما يلخِّصُ ما أَكُنُّه لفيحائي.
- * *
يضُمُّ كتابُنا، وهو الثاني حولَ مدينتِنا يصدُرُ عن جروس برس – ناشرون، أقلامَ عَشَراتٍ نثروا على قِرطاسِهِ، بكلماتٍ دافئةٍ رقيقة، رحيقَ الوفاءِ والولاءِ وعِطرَ الإنتماء. وها نحنُ اليوم، بين دَفّتَين جميلتَين تحضُنانِ صفحاتِ ضياغِمَ ولَبَواتٍ يأتون من عرائنَ مِهنيةٍ وجُغرافيةٍ متنوِّعة لإيصالِ عَبر سُطورِهم رسائلَ الوِدِّ والعِرفانِ لطرابلس. فمنهم من تحدَّرَ منها وآخرونَ مَن ساكَنوها يوماً، ولم يزَلْ عِطرُ زهرِ الليمونِ المندثِرِ يُدغدغُ أنوفَهم. إن غالبيَّتَهم لا تنتمي إلى نادي الأدباءِ بالمعنى الضيِّقِ للكلمة. وإن تساءلَ أحدُنا عمّا إذا كان الأدباءُ يحتكِرونَ الكِتابة، فإن مضمونَ الكتابِ الذي نحتفي به اليوم يحسِمُ الإجابةَ عن هذا التساؤل. تملَّكَتْهُم، على حَدِّ مثلٍ غربي، “حَكّةُ الكتابةِ” التي لا يشفيها سوى “حكَّةُ الرّيشة “. فلَبَّوْا نداءَ ناصر الذي حَرّكَ فيهِم مكنوناتٍ هُرِعوا لتفجيرِها في كتابِه. فمنهم من كتبَ لاستدراجِ ذِكرياتٍ، ربما تستدِرُّ الدموع، وآخرون حثَّتْهم ذِكرياتُهم على اللجوءِ إلى أقلامِهِم. وعلى كلِّ حال، لم تَطْغَ أيةُ رومانسيةٍ على موضوعيتِهم. - * *
لن يَحارَ القارئُ في تحديدِ طبيعةِ الكتاب. فهو في آنٍ، كتابُ تاريخ، وعِلمُ اجتماع، وجغرافيا وأنتروبولوجيا ودليلٌ سياحي. فما إن يطوي صفحتَهُ الأخيرة، حتى يتبيَّنَ له أنه مَرجِعٌ موسوعي، ومؤلَّفٌ توثيقي، سرْديّاتُهُ وصفيّةٌ تعريفيّة، خاليةٌ من الرّمزيةِ والمَجازية، تعكِسُ واقعَ الحال وترفِدُنا بمعلوماتٍ غزيرة، يضعُها الكِتابُ في أطارِها التاريخي أو الجُغرافي أو المُدُني.
على القارئِ أن يغوصَ في أبوابِ الكتابِ الثلاثة، منقّباً عن كنوزٍ من العلومِ والآداب، يُشرِفُ منها على مخزونِ طرابُلُسَ الثقافي وعلى جامعاتِها ومدارسِها ومنتدياتِها وجمعياتِها ومنابرِها الثقافية وتجارِبِها المسرحية والسينمائية والإعلامية ومطبَخِها، بأقلامِ مُربّين ومؤرِّخين ومتضلِّعين في الفلسفةِ وفنّانين وسينمائيين وموسيقاريين وصَحافيين.
- * *
إرثُ طرابُلُس تَستَبطِنُهُ مقالاتٌ هي بمثابةِ شَهاداتٍ حيّةٍ عليه. إرثٌ ماديٌ من معالمَ على أنواعِها، وعماراتٍ على أشكالِها، وجوامعَ وكنائسَ ومقاهٍ وتراثٍ بحريٍ مميز، ميناءً وجُزُراً.
أما إرثُها المعنوي فضخمٌ وغنيٌّ وعظيم. كانت طرابُلسُ مقصِداً لرحّالةٍ منذ بداياتِ الألفيةِ الأولى؛ أثْرَتْ كتاباتُهم ورسوماتُهم إرثَها الثقافي العميق. تطرَّقَ الكِتابُ إلى الحِقْباتِ التي عاصرَتْها المدينةُ وما خلَّفَتْهُ من آثارٍ مكتوبة، هي خرائطُ طُرُقٍ للمتبحّرينَ في دراسةِ تاريخِها. ووصَّفَ الكِتابُ وقائعَ وحالاتٍ مركِّزاً على ما يُرتجى، مشارِكاً إيانا رؤىً لتطويرِ المدينةِ وتوسِعَةِ إشعاعاتِها من المحلّياتِ إلى العالمية. وأجملُ ما يُكوِّنُ هذا الإرث، إرثٌ عاطفيٌ صادق، يتجسَّدُ بتعصبٍ أكيدٍ ومبرَّرٍ لكلِّ ما يتّصِلُ بالمدينة؛ يشكِّلُ بحدِّ ذاتِهِ ارتقاءً تراثياً لا يعرفُ الحدود، جَوهرُهُ الانتماءُ المحرِّك لشتّى أنواعِ الحنين والمكوِّنُ لهُويةٍ من نوعٍ آخر. - * *
نجدِّدُ في كلِّ كلمةٍ نكتُبُها عن الفيحاء، شبابَ حاضنتِنا للأجيالِ القادمة، لنُسَرمِدَ وجودَها فتكونُ الكُتُبُ إرثاً لا يُجارى في تعريفِ الأجيالِ على تُراثِ المدينة. فالإرثُ يُبنى كما تشيَّدُ المباني مِدماكاً مِدماكا، ينتفي بغيابِها أيُ انتماءٍ إلى مدينةٍ أو وطن. فإذا لم يمهِّدْ سلفٌ لخلفٍ تراثاً ذاتَ لونٍ وطعم، تذهبُ الحياة التي يكونُ قد عاشَها هَباءً. وكتابُ ناصر أحدُ تلك المداميك التي ما إن يتعاظَمُ عددُها، تنطَحُ الصُّروحُ التي تبنيها سَحابَ التاريخ. فشكراً لأقلامِ البنّائين الذين لولاهم لما كان هذا الكتاب.
وشكراً لضابِطِ إيقاعِ الكتاب، دكتور جان جبور، على لمَساتِهِ الدّامِغة.
ويعودُ الفضلُ الأكبرُ دون شكّ لـ “نَصيرِ الفيحاء”، وهو لقَبٌ خلَعْتُهُ على ناصر جروس لاستمرارِهِ في إبرازِ صُوَرِ فيحائِنا البهيّةِ بتعنُّتٍ وإصرار، كلَّما وأينما تسنّى له ذلك.
رحماتُ الله على الأديبِ والشاعرِ والمفكِّرِ العربي عباس محمود العقّاد الذي قال: “الكُتُبُ كالناسِ؛ منهم السيّدُ الوَقور، ومنهم الكَيِّسُ الظّريف، ومنهم الجميلُ الرائع، والأريبُ المُخطئ ومنهم الخائنُ والجاهلُ، والوَضيعُ، والخَليعُ. والدنيا تتّسِعُ لكلِّ هؤلاء”. إن كتابَ ناصر جروس وَقورٌ وكيّسٌ وظريفٌ وجميلٌ ورائعٌ؛ وأبعدُ كلَّ البُعدِ من الصّفاتِ الأخرى البَغيضةِ التي سرَدَها العقَّاد.
وإذ أتمنى لكم قراءةً ممتِعة، أترك كرسيَّ الإعتراف، برأسٍ مرفوعٍ يعتزُّ بانتمائِه إلى طرابُلُس.
والسلام