
ما كل من رمى أصاب ولا كل من خطّط نجحد. حسن محمود قبيسي*
في سياق الصراعات والتحولات الدولية، الحدث التالي المنتظر، في حال حققت الولايات المتحدة الأميركية وذراعها الحركة الصهيونية والإستعمار الغربي أهدافها مما يجري في فلسطين ولبنان منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 (طوفان الأقصى)، وليس كل ما تخطط له وتعمل وفقه قدر محتوم، ستكون الجمهورية الإسلامية في إيران هي الهدف التالي للصيد الحلم، وسيندم القيّمون على الأمور فيها لثقتهم بالولايات المتحدة الأميركية؛ يوم علقوا ردّهم على الغطرسة الصهيونية باغتيال إسماعيل هنية في إيران مقابل تعهد إدارة بايدن بوقف النار في غزة، كما يُتداول استناداً إلى مسؤولين إيرانيين.
وفي السياسة لا جدوى من الندم إن لم يقترن بتحمّل المسؤولية والتراجع عن ما فات وتصحيح الخطأ ومعالجة تداعياته الكارثية.
على قاعدة مقررات معاهدة وستفاليا عام 1648م كانت الترتيبات في المؤتمرات و الاتفاقيات لضبط إيقاع العلاقات الدولية.
وضعت تلك المعاهدة الأسس الجديدة للعلاقات بين الدول الأوروبية فأنهت الحروب الدينية بين المذاهب المسيحية.
ووفق قواعدها حلّت كوارث، بعدما اختلقت دول وكيانات ومُسحت أخرى في مؤتمرات يالطا واتفاقيات سايكس بيكو وقرارات الأمم المتحدة… وكلها لاستغلال الشعوب ونهب خيراتها.
أزمات المجتمع الدولي الغاشم مع زعامات خرجت عن تحالف القوى المتسلّطة، محاولة التحرّر من القيود المفروضة عليها، نشير إلى بعضها وأشهرها والأكثر تأثيراً، بعد الحرب الكونية الثانية.
عبد الناصر
ارتضت الولايات المتحدة الأميركية بمفاعيل انقلاب 23 تموز 1952، ولكن عندما اتجه عبد الناصر نحو التنمية، وهي من عوامل القوة، وتبنّى القضية الفلسطينية التزاماً وممارسة، ووقف عبد الناصر مع كُل الثورات التحررية والإنمائية العربيّة وفي العالم وشُعوبها المُستَعمرة، وفتح مِصر وجامعاتها ومُستشفياتها لاحتِضان العرب والأفارقة والآسيويين، ووضعها في مصاف الدّول العُظمى في حينها، مِثل يوغسلافيا والهند وروسيا والصين في الخندق المُواجِه للاستِعمار العربي، عندها بدأت المواجهات وكان آخرها عدوان حزيران 1967.
رفض عبد الناصر كل الإغراءات الأميركية لحل جزئي، مؤكداً أنه لا يقبل حلا جزئيا منفصلاً عن سورية والجزء الفلسطيني من الأردن، بأي حال من الأحوال. وتوصل أخيراً إلى فرض شروطه بخطابه الشهير المفتوح على الهواء مباشرة إلى الرئيس نيكسون في 1/5/1970 – عيد العمال – وتجاوب معه كان رد فعله أن أوفد جوزيف سيسكو وقدّم مذكرة الإدارة الأميركية إلى مصر تشمل:
1- عدم إمداد االولايات الأميركية «إسرائيل» بطائرات الفانتوم.
2- التزام «إسرائيل» بالانسحاب من كل شبر من الأراضي العربية المحتلة مع ضمان حقوق الشعب الفلسطيني.
3 – لا مفاوضة مباشرة مع «إسرائيل».
4- إخراج بيجن من الحكومة الائتلافية «حكومة مائير» إذا لم يوافق على الرأي الأميركي.
كل ذلك كان حرصاً أميركياً على بقاء الكيان الصهيوني وضرورة وقف إطلاق النار بأي ثمن.
وتطور الموقف بين الولايات المتحدة الأميركية والكيان الصهيوني، على إثر قرار نيكسون بتأجيل إمداد «إسرائيل» بصفقة الفانتوم إلى أزمة سياسية صامتة بينهما. والتزم.
اختبار مصداقية أميركا التي قدمت المشروع وتبنّته في تنفيذه عن صدق؛ وهي في موقف الحياد بين مصر و«إسرائيل» – بالامتنـاع عن إمداد الكيان الصهيوني بالسلاح والطائرات – لأول وآخر مرة.
إيران
طموحات صدام حسين بوراثة عبد الناصر، وإنزال العلم الصهيوني عن السفارة الصهيونية في طهران، ورفع العلم الفلسطيني عليها واعتمادها سفارة لدولة فلسطين، وإعلان الإمام الخميني شمولية ثورته ضد الشاه حليف الولايات المتحدة و«إسرائيل» شمولية دعوته الثوروية، أزعجت الإدارة الأميركية فدفعت صدام حسين لحرب – في غير أوانها مع إيران التي تبنّت القضية الفلسطينية بمدى أوسع من معظم الأنظمة العربية، فأهدرت الدماء وبدّدت الإمكانيات العراقية والإيرانية وانتهت بلا شيء. والتف صدام حسين نحو الكويت ليعوّض عن هزيمته، فاجتاحت الولايات المتحدة العراق واحتلته محققة أهدافاً كثيرة، بينها الفتن المذهبية وإضعاف الجيش العراقي.
سورية
لا يناقش أثنان بأن الدخول السوري إلى لبنان ومداه دعماً للقوى اليمنية المستغلة كان بموافقة أميركية وصهيونية، وعندما خرج الحكم السوري عن المرسوم من الموافقة ودعم المقاومة الإسلامية بمواجهة العدو الصهيوني، واستنفذت أغراضه المتقاطعة مع المصالح الأميركية/ الصهيونية، كان القرار الأميركي بإخراج قواته، لترتيب تعيبن رئيس جديد للجمهورية… وفق الأعراف.
رفض الرئيس السوري بشار الأسد الإملاءات الأميركية، فاغتالت القوى المتضررة من التدخل السوري الانفرادي ودعمه المطلق للمقاومة الإسلامية، رئيس الحكومة اللبنانية رفيق الحريري وتوجهت أصابع الاتهام على غير منطق وحق إلى سورية وحلفائها، وحشدت الجماهير بمظاهرات طالبت بإخراج قواتها، فتم ذلك في 26/4/2024.
عن المقاومة الإسلامية
المقاومة الإسلامية كبرت حجماً وازدادت إمكانيات وتعاظمت نفوذاً في لبنان وانفردت باتخاذ القرارات الحاسمة، بحيث كانت الذراع الضارب للجمهورية الإسلامية وحليفها الأقوى، والسند لرعاية مصالحها كدولة ملتزمة بالإسلام وفق فقه علمائها.
وهذا ليس في حسابات الولايات المتحدة الأميركية، عدونا المركزي، ولن تقبل بمفاعيله إلّا عنوة.
بعد تحريرها معظم الأراضي اللبنانية والتفاف معظم اللبنانيين حولها وطرد الاحتلال الصهيوني عام 2000 وتهاونها مع عملائه وطي صفحة ما مضى بكل سوادها، دُبر اغتيال الحريري، فتفشّت المذهبية بعدما صرفت المخابرات الأميركية – باعتراف بعض مسؤوليها – خمسة مليارات دولار أميركي لتأجيجها، وحفر هوة بينها وبين قسم كبير من اللبنانيين. وإفشالها أهداف عدوان 2006، فاستدرجت إلى حوادث 2008، و«نفخ» العماد ميشال عون وصهره جبران باسيل وسكوتها عن كل مفاسده ومفاسد الآخرين، ووقوفها موقفاً ملتبساً من احتجاجات 17 تشرين 2019 – 2020 – وحول توقيتها وغاياتها وبعضها مشبوه-.
وتركت الجماهير وحدها تواجه سرقات المصارف الموصوفة ونهبها، ولم تحاول منع تلك اللعبة القذرة، فلم ترتح الجماهير لها.
فجّرت «إسرائيل» مرفأ بيروت 4/8/2020 بدليل لون دخان الانفجارات في الضاحية، وبدليل انتعاش مرافئ حيفا ودبي وأبو ظبي بعد الانفجار، ووقعت مع حلفائها في فخ الامتناع عن التعاون مع العدالة المنحازة المهتزة، فاتهمت.
وعادت لمحاولة التفرّد من جديد بتعيين رئيس جديد للجمهورية…
ودخلت «طوفان الأقصى» مساندة ثم مشاركة بفاعلية خففت من اندفاعة العدو الصهيوني…
بعد مضبطة الاتهامات وبعضها أميركياً كان الانتقام الأميركي/ الصهيوني: اغتيال السيد.
نجزم أن هذا العدوان المدوي – ولم يسمع به معظم الحكام العرب – لن ينال منا لا تمسّكاً بمقاومة العدو الصهيوني، وهو كما سبقه من غدر وخسّة ضربة تقوينا ولا تميتنا، ولن يصرفنا عن التصدي للمتصهينين، ونؤكد لهم أن هذه لن تكون لا فرصتهم ولا فرصة من يعملون لهم.
ونحن لا نطالب الشعب وقواه الحية بالتعامي عن الكارثة القومية باغتيال السيد، واعتبار ما نزل واحدة من الأثمان في الحروب المسلحة، فما حلّ ليس النتاج الطبيعي للمقاومة الحذرة. مع الأخذ بعين الاعتبار الزلزال الدموي وتداعياته.
نطالب بالتوقف عندها، فهو الدافع للمراجعة الدقيقة والشفافة والتخطيط والتلاحم والمحاكمة العلنية والمحاسبة الفورية وتحديد الأسباب، ففي صفوفنا كما المألوف في الدول والدعوات والمنظمات ألف «يوضاس» وألف «عامر»، ونحن بحاجة إلى مصارحة مع أصحاب القرار عند أطراف «محور المقاومة».
ولا نقول برد الاعتبار، فالصمود اعتزاز ومفخرة والتصدي بطولة، ولا نقول بانتقام وثأر، فالثأر للقائد الشهيد يكون بتكريس نهجه المقاوم، والمواجهة بشرف ونقل المعركة بكل وجوهها إلى الأرض المحتلة، ولنستعد لحرب استنزاف لا تتوقف إلّا بشرق أوسط جديد وفق مصالحنا نحن، فالعدو كما رآه السيد «أوهى من خيط العنكبوت»، ولا نراه على غير واقعه هذا وإن سُخّرت له إمكانيات المجتمع الدولي الغاشم الهمجي، وله أن يرتعب، فالشعب المقاوم بكل أشكال المقاومة على مدى قرون؛ لن ينهار.
- مؤرخ وكاتب سياسي