
غياب القرار السياسي هو أزمة مزمنة تعطل الدولة (الجزء الثاني). \كتب غسّان حلواني
عطفا ً على ما سبق في المقالة السابقة، نستنتج إذا ً أنّ القرار السياسي في لبنان يتميّز بارتهانه الدائم للعوامل الإقليمية والدولية، حيث تتدخل القوى الخارجية، سواء الإقليمية أو الغربية، في تحديد مسارات الحكم والسياسات الداخلية. فالتجاذبات بين المحاور الإقليمية والدولية انعكست بشكل مباشر على المشهد السياسي اللبناني، مما جعل تشكيل الحكومات، انتخاب رئيس الجمهورية، وإقرار الإصلاحات الكبرى رهينة توافقات إقليمية ودولية أكثر منها محلية.
و من وجوه غياب القرار السياسي الجامع، (بشقيه / القرار السياسي المحلي الصنع / و القرار السياسي الإقليمي أو الدولي الصنع)، تأخر تشكيل الحكومات لعدة أشهر أو حتى سنوات بسبب الخلافات على توزيع الحقائب الوزارية. و كذلك الفراغ الرئاسي المتكرر نتيجة الانقسامات السياسية، حيث يبقى لبنان دون رئيس لفترات طويلة، كما حصل بين 2014-2016، ومرة أخرى بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون في 2022. ناهيكم عن الشلل في مجلس النواب، حيث تمنع الانقسامات الطائفية والمصلحية تمرير القوانين الأساسية، مما يؤخر الإصلاحات السياسية و الاجتماعية و المالية والاقتصادية الضرورية.
و يؤدي غياب القرار السياسي الحاسم إلى تعطيل الإدارة العامة وتحويلها إلى أداة للمحاصصة والتوظيف السياسي، ما يفاقم الفساد وسوء الإدارة. فقد تحولت معظم المؤسسات العامة إلى مصدر للزبائنية السياسية، حيث تُوزَّع المناصب والخدمات وفق الانتماءات الطائفية بدلًا من معايير الكفاءة والجدارة.
و من تجليات غياب القرار السياسي الحاسم تفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية ،كإنهيار العملة الوطنية وفقدان الثقة بالقطاع المصرفي، وتردّي الخدمات الأساسية مثل الكهرباء، المياه، والتعليم، نتيجة غياب التخطيط الاستراتيجي واتخاذ القرارات المناسبة ، و تصاعد معدلات الفقر والبطالة.
و بالرغم من قتامة المشهد، هناك مجموعة من الحلول الممكنة التي يمكن أن تساهم في الحدّ من أزمة القرار السياسي، حتى ضمن الإطار الطائفي القائم. وهذه الحلول تتطلب إرادة سياسية حقيقية، وضغطًا شعبيًا ومدنيًا، وإصلاحات هيكلية على مختلف المستويات، من ذلك، اعتماد اللامركزية الإدارية الموسّعة ، وتفويض السلطات للبلديات واتحاداتها بما يسمح لها بإدارة شؤونها الإنمائية والخدمية بعيدًا عن البيروقراطية المركزية.
إنّ تقليل تأثير المحاصصة السياسية على المشاريع التنموية والخدمات العامة ، يعزز دور الإدارات المحلية في إدارة الموارد وتنفيذ المشاريع الاقتصادية، مما يخلق فرص عمل ويخفف الضغط عن الدولة المركزية.
قطعا ً ، نقطة البداية في إصلاح حال القرار السياسي ، هي إصلاح النظام الانتخابي لتعزيز التمثيل الحقيقي و اعتماد قانون انتخابي جديد يقوم على النسبية خارج القيد الطائفي، و اعتماد المحافظة دائرة انتخابية ، تمهيدا ً للبنان دائرة إنتخابية واحدة ، مما يسمح بتمثيل أوسع للشرائح المختلفة بعيدًا عن التحالفات الطائفية التقليدية.و بما أنّ هكذا حلول تحتاج الى كثير من الدراية و الوعي ، فإنّ إنشاء مجلس شيوخ كما نصّ عليه اتفاق الطائف، أمر غاية في الأهمية ، بحيث تُناقش فيه القضايا الطائفية، و تكون من مهامه بناء توافق داخلي على الأولويات الوطنية (بما في ذلك قوة الردع -سلاح المقاومة) و تعزيز الحوار بين مختلف القوى السياسية لتحديد أولويات إنقاذ البلاد بعيدًا عن الحسابات الفئوية ، ويرسم سياسة خارجية مستقلة تحافظ على مصالح لبنان دون الانجرار إلى محاور إقليمية ، فيما يُترك مجلس النواب للعمل التشريعي الوطني بعيدًا عن المحاصصة الطائفية.
و بما أننا و بفعل ضغط الاحتلال السوري زمن الوصاية ، قد طبّقنا بشكل جزئي إستنسابيا ًالطائف بما يتناسب مع مصالح قوى الأمر الواقع ، فلا بد من تطبيقه بشكل كامل ، على أن ينظر بعين الخبراء الى نقاط الوهن و الخلل أثناء تطبيقه . و إذا – لا سمح الله – كان الخلل كبيراً و يحتاج الى إعادة صياغة ميثاق وطني جديد يقوم على مفهوم الدولة المدنية ، و يحقق العدالة بين اللبنانيين، ويُخرج لبنان من دوامة المحاصصة الطائفية ، فلا بأس ، فالطائف ليس كتابا ً مقدّسا ً و لا آخر الحياة .
و لأنّ في التكرار فائدة أعود لأؤكّد على ضرورة تعزيز استقلالية القضاء ومكافحة الفساد و تطبيق إصلاح قضائي بعيدًا عن التدخلات السياسية والطائفية. و كذلك تفعيل الهيئات الرقابية لمحاسبة الفاسدين وإقرار قانون استعادة الأموال المنهوبة.
لا شك أن أزمة القرار السياسي في لبنان هي انعكاس لخلل بنيوي في النظام الطائفي القائم، ورغم التحديات، لا يزال هناك أمل في إعادة بناء الدولة على أسس جديدة أكثر عدالة وشفافية وكفاءة، لكن ذلك يتطلب إرادة شعبية وضغطًا مستمرًا لإجبار الطبقة السياسية على التغيير. فهل يستطيع اللبنانيون كسر حلقة الجمود السياسي، أم سيبقى لبنان عالقًا في دوامة الأزمات إلى أجل غير مسمّى؟