عربي

الفخرُ بقادة المقاومة الفلسطينية، و”مارتن إنديك”!

بكر أبوبكر

أعجبني مقال بقلم الكاتب بلال صعب من معهد بروكنغز الأمريكي من زاوية فهم العلاقات الانسانية وخاصة العلاقة الخاصة بين القائد والأعضاء ضمن مسؤوليته، وهي علاقة لعمري تحتاج للكثير من الأحبار، واستطاع صعب أن يسهلها في مقاله عن معلّمه ومرشده كما أسماه “مارتن إنديك”.

عملتُ شخصيًا مع عدد من القادة المؤسسين للثورة والمقاومة الفلسطينية أمثال الأخوة سليم الزعنون “أبوالأديب”، وأبوماهر محمد غنيم “أبوماهر”، وهاني الحسن “أبوطارق”. وكان لي علاقات خاصة مع قادة آخرين مثل صلاح خلف “أبوإياد”، وخالد الحسن “أبوالسعيد”. وإن كانت العلاقة مع الأخين الأخيرين لم ترتبط بعلاقة عمل تنظيمية (مهنية) فإنها كانت ذات طابع روحي وفكري قوي.

في طبيعة العلاقة مع هؤلاء كتبتُ الكثير ولربما اتفقت أحيانًا مع بعضهم واختلفت في مواقف أخرى، ولكنهم على اختلاف مناهج إدارتهم وقيادتهم كانوا على العموم يتميزون: بالاحتضان والسماحة والإتاحة. الاحتضان للأفكار والمبادرات والتساؤلات والآراء، والسماحة حين يواجهون بالنقد أوالرفض أو الغضب (خاصة ممن هو بعمر أولادهم أمثالي آنذاك) وبالإتاحة للتعبير عن الذات من خلال التشجيع ودعم الجهود والعطاء.

مواقف قيادية أبوية

في أول مرة بحياتي أتعامل مع ندوة عامة -وكان لدي على ما يبدو رُهاب الجمهور- وبعد أن تدربتُ طويلًا على مواجهة الجمهور (طلاب الجامعة حيث كنت رئيسا لاتحاد الطلاب) قمتُ بتقديم القائد أبوإياد صلاح خلف، وأنا أخفي قلقي وخوفي ولكنني مع التدريب المسبق بذات القاعة قدمته بحدود 3 دقائق، فما كان منه-والأنظار متجهة أصلاً نحوه فمن هذا الجالس بجانبه-إلا أن أدرك قلقي باعتقادي وقال لي بابتسامة لطيفة: أجدتَ التقديم، وربت على كتفي، وكرر مثل هذا التشجيع في مناسبات أخرى.

أما عضو اللجنة المركزية لحركة التحرير الوطني الفلسطيني- فتح مسؤول التنظيم محمد راتب غنيم (أبوماهر) فلقد اختارني هو استنادًا للقاءات قليلة سابقة و”توسّم” كما قدّرت لاحقًا.

لقد اختارني أبوماهر أن أعمل معه بمكتبه في تونس عندما سُدّت في وجهي السُبُل، وكان يحمل بطاقة مكتوب عليها: أثق بك. فلم يكن منه إلا أن يردد أمامي –وأمام الآخرين الذين يكلّفهم بجولة تنظيمية- أرسل حكيمًا ولا توصه، فلقد كان اختياره دلالة على سلامة القرار اللاحق، وما يذكرني بما قرأته لاحقا عن “ستيف جوبز” مؤسس شركة التفاحة والهاتف الذكي “أبل”: “نحن لا نوظف الأذكياء لنقول لهم ما يفعلون، بل نوظفهم ليقولوا لنا ما علينا فعله”.

كان القيادي هاني الحسن الذي عملت معه في دائرة العلاقات الخارجية لحركة فتح، ثم فيما تلاه في مفوضية التعبئة والتنظيم بالحركة رجلًا مِرحابًا يهتم بالأفكار كثيرًا كما حال أخيه الأكبرعضو اللجنة المركزية لحركة فتح أيضًا خالد الحسن “أبوالسعيد”. لذا تجده يرحّب بالمبادرات الفكرية لاسيما ما ارتبطت بفعل وليس تنظير خاوي الوفاض. ولم يكن “أبوطارق” يهتم بالعوائق بل كان يذلّلها للكادر متى ما كانت تسد الطريق ويتخذ كل السبل لتحقيق الهدف.

خالد الحسن “أبوالسعيد” حكاية أخرى تمامًا. فلم تكن علاقتي به برابطة تنظيمية بل روحية فكرية مؤثرة سواء فيما اكتسبته من وهج اللقاءات التي اجتمعت معه فيها، فترة الطلاب، أو من خلال متابعات ما كان يكتبه وبفهم منطقه وطريقة تفكيره وعرضه للأمور وعلى طريقة تفكيره المحافظة دينيًا والعقلانية وعلى طريق مجموعة من الكُتّاب المماثلين من العرب فُتِح أمامي طريق الفكر على أوسع أبوابه، كما فهمت وأدركت لاحقًا.

أما عن العلاقة مع الراحل عضو مركزية فتح ورئيس المجلس الوطني الفلسطيني سليم الزعنون “أبوالأديب” فلقد كانت علاقة عملية تنظيمية مباشرة فترة عضويتي في لجنة الاقليم للحركة، الذي كان هو معتمده. وهي فترة حضانة وتعلّم عملية كما يمكن القول لأنه من خلال هذه الفترة أطللتُ على التناقضات والاختلافات والنزاعات داخل أطر القيادة الثانية (لجنة الاقليم في الكويت) ولكنها في جميع الأحوال كانت مدرسة تحت رعاية أبوالأديب سواء في فترات الاتفاق معه أوالاختلاف.

مع الأخ عثمان أبوغربية مسؤول التوجيه السياسي والوطني حيث عملت (وظيفيًا) في فلسطين نائبًا له كان الرجل يسير على خطى الأخوة بالمركزية قبل أن يصبح عضوًا فيها، لذلك كانت فكرة الإتاحة للمبادرات والرعاية للفعل والبُعد الانساني ضمن سياقات مدرسته بالإدارة.

“مارتن إنديك” وصعب

قد أكون استطردت بالعرض لأقول مكررًا شكري للكاتب بلال صعب بحديثه المفتون عن مرشده “مارتن إنديك”، وبالطبع الحديث هنا وكلامي أنا بعيدًا عن المواقف السياسية ل”إنديك” تجاه القضية الفلسطينية. والذي يمكنني القول أنه لخّص بعرضه اللطيف مباديء تحقيق الصِلَة الحميدة بين القائد أوالمدير والعضو تحت إمرة الأول والتي يجب أن “تُشعرك بالراحة”، وتؤدي الى “المشاركة” والدفع للامام. إذ رأي أن الايمان من القائد بالشخص، وتقديره وتشجيعه وأحيانًا توبيخه حين الخطأ، والشد من أزره حين يفشل من الأساسيات في العلاقة الحسنة، وحيث تكون عوامل الإيمان والمساعدة والثقة، والأبوية والاحترام والانسانية والتفاؤل والتشجيع والتعلم من شرائطها أيضًا.

إن النقاط المذكورة أعلاه في العلاقة الصحيحة أو الحسنة أو الايجابية بين القائد وبين العضو ضمن نفس المؤسسة أو المنظمة هي التي دعت باحثًا معروفًا مثل بلال صعب يصف المفكر والدبلوماسي الاسترالي-الأمريكي “مارتن إنديك” ورئيس مركز بروكنغز للدراسات من عنوان مقاله بأنه: ]مارتن إنديك كما عرفته، إرث إنساني ودبلوماسي غني ومُشرف[ وحيث ذكر بمقاله المادح له أنه رجلٌ يُحترم ويُحسد على تفاؤله الدؤوب، مشيرًا لمصداقيته، وأنه الرجل الاستثنائي، والمتفاني بعمله، ذو الإرث الغني والشخصية المشرقة، والشخصية المدهشة.

ويكتب صعب عن معلّمه مارتن إنديك (توفي من أيام 2024م) الذي شغل مرتين منصب سفير الولايات المتحدة في “إسرائيل” وهو مؤلف الكتاب الذي صدر مؤخراً بعنوان “سيد اللعبة: هنري كيسنجر وفن دبلوماسية الشرق الأوسط”، قائلًا أنه: “كثيرا ما أُخبر طلابي ومساعديّ أن أهم شيء يمكنهم فعله لتعزيز حياتهم المهنية هو العثور على مرشد جيد. كان مارتن مرشدًا مثاليًا، وكان دائما موجودًا من أجلي ليقدم لي النصائح الصادقة…”. ويقول أيضًا بالنص “كنا دائما نشجع بعضنا البعض. أنا فخور بأن أقول إنني تلميذه.” وهو الى ذلك كما وصفه تلميذه ” صوت العقل في هذا العصر من الجنون السياسي.”

إذ كان هكذا هو الأمر بين بلال صعب و”مارتن إنديك” الذي استطاع توصيف العلاقة بدقة ولطف ووفاء، فلا لوم علينا مطلقًا عندما نكتب المرّة تلو المرة عن القادة الكبار، القدوة، الذين انطلقوا ليس ليحرروا فلسطين فقط، فهي مسارٌ طويلٌ سنبلغه آجلًا أو عاجلًا بإذن الله، وإنما أيضًا لتحرير العقل من أوهامه أوتناقضات أفكاره، والروح من خرائبها، والنفس مع صراعاتها فيجعلون من أقوالهم وسلوكهم تجاه الآخرين الذي وصفته هنا باختصار(بالاحتضان والسماحة والإتاحة) هو المنهج بالتعامل، والذي لربما يفتقده الكثيرون في هذه الأيام السوداء حيث تنخفض مستويات الدم عند أصحاب العقل الوظيفي الشخصاني، فلا يستطيعون بلوغ درجة أصحاب العقل النضالي المؤمن بالرسالة والأسلوب النضالي بكل أنواعه، وبديمومة الفعل حتى تحقيق النصر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى