مقالات

“عدالة في الميزان أم خديعة الأرقام؟” \ كتب غسّان حلواني

لبنان، هذا الوطن الذي يعيش على حافة الاحتمالات، لم يكن يومًا مجرد دولة بحدود جغرافية، بل هو كيانٌ تتنازع فيه الطوائف والمذاهب والأحزاب، فيتحوّل القانون الانتخابي فيه من مجرّد أداة لتنظيم الحكم إلى سلاحٍ في معركة النفوذ والهيمنة.
حين أُقرّ قانون الانتخاب النسبي عام 2017، بُشّر اللبنانيون بأنه سيكون بوابة العبور نحو عدالة التمثيل، وأنه سيُنهي عهود الاستئثار بالحكم لصالح قوى مهيمنة على إرادة الناخبين. لكن سرعان ما تبيّن أن هذا القانون، بدل أن يكون حلًّا، زاد من تعقيد المشهد السياسي، فتحوّلت الانتخابات إلى ساحة هندسة تحالفات غريبة لا يجمعها أي رابط سياسي أو فكري، بل تحالفات وُلدت من رحم الحاجة إلى عبور العتبة الانتخابية.
من وجهة نظرعالم الاجتماع الفرنسي ريمون بودون ، ” التمثيل النسبي يُنتج مشهدًا ديمقراطيًا شكليًا، لكنه يقتل الفعالية في الحكم “، و بالفعل، فقد أثبتت التجربة اللبنانية أن القانون النسبي لم يكن سوى وصفة جاهزة لشلل سياسي، إذ جاء بمجلس نيابي متشظٍّ، لا أغلبية واضحة فيه، ولا قدرة لأي فريق على اتخاذ القرار دون العودة إلى مساومات لا تنتهي. والأدهى من ذلك، أن هذا القانون جعل كل نائب ممثلًا عن فئته وطائفته أكثر من كونه ممثلًا للأمة جمعاء، فكان التشرذم على أشدّه، حتى بات تشكيل الحكومات عملية قيصرية تمتد لأشهر طويلة، وأحيانًا لسنوات.
وفي المقابل، حين كان لبنان يعتمد القانون الأكثري، رغم عيوبه، كانت الأمور تُحسم بوضوح أكبر. فالحزب أو التحالف الذي يفوز ينال الأغلبية ويحكم، وحين يفشل، يُحاسب في الانتخابات التالية. يقول عالم السياسة الإيطالي جيوفاني سارتوري “الأنظمة الأكثرية تخلق حكومات مستقرة، بينما الأنظمة النسبية تُنتج حكومات متأرجحة ضعيفة الإرادة”، وهذا تمامًا ما حصل في لبنان. فمنذ اعتماد النسبي، دخلت البلاد في دوّامة من العجز، حيث لا أكثرية تحكم ولا أقلية تعارض، بل سلطة هشة قائمة على تسويات لا تلبث أن تنهار عند كل استحقاق.
والأمر ليس مجرّد أزمة تقنية في القانون، بل هو انعكاس لبنية لبنان الطائفية، حيث التوافق الإلزامي يصبح قاعدة، والفيتو الطائفي يُعطّل أي محاولة للإصلاح. فكيف يمكن لنظامٍ قائمٍ على المحاصصة أن ينجح مع قانونٍ يحتاج إلى حدٍّ أدنى من الانسجام السياسي ليؤتي ثماره؟ يقول ماكس فيبر “السياسة تحتاج رجال قرار، لا رجال تسويات لا تنتهي”، وما نشهده في لبنان هو عكس ذلك تمامًا، حيث بات التوافق القسري على حساب الحسم السياسي، فغابت الدولة وحضر الفراغ.
إنَّ القانون الانتخابي ليس مجرد أداة لاحتساب المقاعد، بل هو ركيزةٌ أساسيةٌ في بناء الحكم، وإذا لم يكن قادرًا على إنتاج سلطة فاعلة، فإنه يتحوّل إلى عبء على الدولة. وفي لبنان، أثبتت التجربة أن النسبي لم يكن الحلّ، بل كان فخًّا وقعت فيه البلاد، فتحوّلت الديمقراطية إلى ديمقراطية شكلية، والانتخابات إلى مشهد فولكلوري لا يُنتج سوى مزيدٍ من التعقيد والانهيار.
في الدول الديمقراطية تُصاغ و تقرّ قوانين الانتخابات في البرلمانات ، أمّا في لبنان فهي تولد قيصريا ًفي النزع الأخير، في دهاليز غرف المصالح و التسويات السوداء، و تُحاك كأثواب مفصّلة على قياس ممثلي المصالح، و يبقى الجدل مستعراً بين مناصري القانون النسبي وداعمي القانون الأكثري. الأول يزعم أنه بابٌ للعدالة، والثاني يرى فيه نفقاً للضياع والتشرذم .
من منطلق التجربة الشخصية، وقد شاركت في الانتخابات بموجب القانونين، يبقى القانون الأكثري في نظري سيفاً قاطعاً للفوضى، يعيد القرار إلى يد الأغلبية الحقيقية. و بالمرور بخرق إتفاق الطائف عبر تقزيم الدائرة الانتخابية ، و تقسيمها الى دوائر، خدمة ً لنفوذ فئات معينة ،تبقى المحافظة كدائرة إنتخابية هي الأمثل لتحقيق إنصهار طائفي في الوطن.
يتهمون زورا ً القانون الأكثري بالإقصائية، – إقصاء من لا وزن تمثيلي له – إلا أنه يمنح الحُكم للأقوى، للأكثر تمثيلاً شعبياً، دون الحاجة إلى تحالفات مع أحزاب لا تمتلك ثقلًا حقيقيًا. وقد رأى عالم السياسة الإيطالي جيوفاني سارتوري أن “الأنظمة الأكثرية تخلق حكومات مستقرة وقوية، بينما الأنظمة النسبية تُنتج حكومات متأرجحة ضعيفة الإرادة.” فالانتخابات ليست مجرد عملية حسابية، بل هي تمهيدٌ لطريق الحكم، ومن يُنتخب يجب أن يكون قادراً على اتخاذ القرار، لا رهينة توافقات هشة تهوي بالحكم إلى مستنقع التعطيل والمساومة.
لقد أدرك ماكس فيبر، المفكر الألماني، هذه الإشكالية حينما قال “ا لسياسة تحتاج إلى زعامة قادرة على اتخاذ القرار، وليس إلى فسيفساء بلا روح.” فالقانون الأكثري، بقدر ما قد يُتهم بأنه يُقصي بعض الأصوات، يمنح البلاد قدرةً على الحُكم، بينما القانون النسبي يحوّل الحكم إلى بازار سياسي مفتوح، حيث المصالح فوق المبادئ، والتوافقات فوق القرارات الحاسمة.
وفي النهاية، لا يكفي أن يكون القانون عادلاً في حساباته الرقمية، بل يجب أن يكون عادلاً في نتائجه العملية، فالسياسة ليست مجرد لعبة أرقام، بل هي فن تحقيق الممكن ضمن معادلة الاستقرار والفعالية.
وفي النهاية، لا يكفي أن يكون القانون عادلاً في حساباته الرقمية، بل يجب أن يكون عادلاً في نتائجه العملية، فالسياسة ليست مجرد لعبة أرقام، بل هي فن تحقيق الممكن ضمن معادلة الاستقرار والفعالية.
فهل المشكلة في القانون وحده، أم في بلدٍ يعيش على وقع التسويات الهشة، حيث لا الأكثري ينفع ولا النسبي يُصلح ما أفسدته الطائفية؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى