مقالات

أبحث عن وطن … كتب:د.جان قسّيس

في قلبي وجعٌ ما بعده وجع . أحسّ بأنّ الكون يسحقني ، وبأنّ السماء تناستني ، وبأنّ الله تخلّى عنّي ، عن روحي ، عن أهلي ، عن أرضي وعن فرحي …
وطني على فراش الموت منذ خمسين عامًا . نزيفه لم يتوقّف منذ وقفت المتاريس والحواجز بين أبنائه . واقفٌ هو على حدّ السيف ، ضائعٌ في متاهةٍ عبثيّة ، غارقٌ في لُجج التناحر والعداء والكراهية ، متشتّتٌ ، مقهورٌ ، حزينٌ ، متعبٌ ومنهك .
وطني ، الذي كان قبلة أنظار العالم في أزمنة الخير ، حُقِن بأمصال الحقد والطائفيّة والمذهبيّة والإنتماءات الضيّقة ، فغدا كالأخطبوط بألف قدمٍ وألف ذراع .
وطني ، تلك الزهرة النديّة الحلوة الزاهية اللّون ، صبغها الليل الأسود بغباره المقيت ، فغدت عوسجةً لا تُمَدُ إليها يدٌ طيّبةٌ ولا تقربها نسمة عطر .
وطني ، تلك الحكاية الجميلة في كتب الله ، والأرض الموعودة في خيال الشعراء ، والجبل الذي قال عنه الربّ لموسى : ” لا تنظر إلى هذا الجبل ، إنّه وَقفٌ لي ، ولن تطأه أنت ولا من يأتي بعدك”، أصبح مشاعًا للمؤامرات والإحتلالات والدم المباح .
وطني ، هذا الحبّ المتدفّق من ينابيع الجمال ، وهذا الفكر المتنوّر المشعّ في أنحاء الدنيا ، وهذه اللّوحة الإلهيّة التي تتكحّل بها عيون الأفلاك ، أصبح بيت عنكبوتٍ واهيًا نسجته العقول المريضة ، والعقائديّات المتضاربة المخرّبة ، والنوايا الفاسدة القاتلة .
وطني الحلم أصبح وهمًا ، ومجرّد كلمةٍ من أحرفٍ ثلاثة .
ذاك الوطن الذي عشناه في طفولتنا ومطلع شبابنا ذرته ريح الفُرقة على بيادر الغربة وعلى فوّهات البراكين وارتجاجات الزلازل .
ضاع وطني … ومعه ضاع وجودي وأحلامي وأحلام الكثيرين غيري .
أتطلّع اليوم إلى أرزتنا الجريح ، إلى جنوبنا المذبوح المدمّى ، إلى شمالنا المنسيّ ، إلى بقاعنا القاحل الأجرد الذي شكّل يومًا “أهراءات روما” ، إلى جبلنا الدامع الحزين ، إلى بحرنا و أنهارنا المتخمة بالنفايات والقرف ، إلى شواطئنا المغتصبة من زمرة المتنفّذين الفاسدين ، إلى الجائعين والبؤساء في بلدي ، فأغرق في دموعي الحارقة وفي أفكارٍ سوداءَ تقتلني ولا أجد منها خلاصًا .
قد يلوح أمامنا أملٌ ما يلبث أن يتبخّر سريعًا أمام الأنانيّات والأطماع .
وطني تحوّل أوطانًا ، بل مزارعَ هشّةً رعاتها متسلّطون ، والأغنام كثيرةٌ وخانعة . وكلّ راعٍ يخال نفسه كبير الرعاة وسيّدًا على الآخرين.
ألم يكن فنّاننا الكبير “زياد الرحباني” على حقٍّ حين قال :

“قوم فوت نام
وصير حلام
إنّو بلدنا صارت بلد
هاي مش بلد
هاي قرطة عالم مجموعين
لا
مضروبين
لا
مطروحين
لا
مقسومين …
قوم فوت نام
وصير حلام “

كم هو على حقّ .

وأحار في أمر هذا الوطن ، هذا البلد – وربّما كانت هذه التسمية الأصحّ – الذي نشعر بأنّه ضاع منّا ، وإذا بنا في لحظاتِ تجلٍّ تصادفنا محطّاتٌ تردّنا عن يأسنا .
عام ٢٠٠٠ ، دُعيت إلى بلدة “تمنين” في البقاع للمشاركة في ندوةٍ عن سماحة الإمام السيّد موسى الصدر في ذكرى تغييبه ، واخترت موضوعًا لورقتي “مفهوم المواطنة في فكر الإمام الصدر”.
مَن دعاني كان صديق طفولتي واسمه “أحمد مرتضى” وكان مسؤولًا في “حركة أمل” ( رحمة الله عليه. قضى في جائحة كورونا) . كنّا أكثر من صديقَين ، بل أخوَين حقيقيَّن عشنا معًا على الحلوة والمرّة سنواتٍ طوال.كان الحضور في مجمله من الطائفة الشيعيّة الكريمة . وفي خضمّ قراءة ورقتي ردّدت مرارًا عبارة “أنا المسيحيّ الكاثوليكيّ وأخي أحمد المسلم الشيعيّ “(كيف جسّدنا في حياتنا معًا مبادئ السيّد موسى وأفكاره ودعوته) . ولا يُمحى من ذاكرتي ردّ فعل الحاضرين الرائع كلّما ذكرت تلك العبارة .
وأذكر أيضًا حادثةً أخرى … مع اندلاع الحرب اللبنانيّة المشؤومة عام ١٩٧٥ وانقسام المناطق ، إنقطع الأهل والأصدقاء بعضهم عن بعضٍ بفعل الواقع المرير . من الأصدقاء الذين انقطعت عنهم شخصيًّا أخٌ عزيزٌ جدًّا عليَّ من “قرنايل”، البلدة الجميلة في رحاب المتن الأعلى ، يدعى “أديب هلال”، من طائفة الموحّدين الدروز ، (توفّاه الله أيضًا قبل أعوام ، رحمه الله ) . بعد انقطاعٍ طويلٍ جمعتنا الصدفة عام ١٩٩٢، أي بعد ١٧ عامًا من الفراق القسريّ . لحظة التقينا علا صراخنا معًا وهرعنا نتعانق بلهفةٍ ما بعدها لهفة ، حتّى انهرنا على الأرض راكعَين ونحن نجهش بالبكاء المرّ الممزوج بفرحٍ لا يوصف لمدّةٍ فاقت الدقائق العشرين ، وأبكى مشهدنا كلّ مَن كان حولنا.
هذا هو وطني الذي أبحث عنه . وطنٌ يجمع أبناءه على المحبة والوفاء والألفة بعيدًا من أيّ معتقدٍ دينيٍّ أو طائفيٍّ أو حزبيّ . “الدين لله والوطن للجميع” شعارٌ مقدّس علينا جميعًا الإلتزام به لنعيش ما تبقّى من عمرنا القصير في سلامٍ ووئام .
لن تضيع يا وطني ما دامت فيك جماعات ، ولو قليلة ، تتّسم بالوعي والإيمان بأنّك وطنٌ نهائيٌّ وأبديٌّ لجميع أبنائك .

د.جان قسّيس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى