
ٌتأمُّلاتٌ إيمانية
الحَسَناتُ الخَفِيَّةُ
بِقَلَم: د.غازي قانصو
الحَسَناتُ الخَفِيَّةُ هِيَ أَبْهَى الأَفْعَالِ الَّتِي تَخْتَبِئُ خَلْفَ السِّتَارِ، لَا تَنْشُدُ ضَجِيجَ المَدْحِ، وَلَا تُحَاكِي زِينَةَ المَظَاهِرِ، وَلَكِنَّهَا تَتَسَلَّلُ إِلَى الأَنْفُسِ فَتُضِيئُهَا، وَتَسْكُنُ القُلُوبَ فَتُشْعِلُهَا دِفْئًا وَإِيمَانًا.
يَا صَاحِ، أَنْ نَعمُرَ قَلْبًا بِالإِيمانِ وَالإحْسَانِ، أَنْ نَبْنِيَ فِي نَفْسٍ يَائِسَةٍ جِسْرًا مِنَ الرَّجَاءِ، أَنْ نَغْرِسَ فِي أَرْضٍ قَاحِلَةٍ بُذُورَ البِرِّ والحَياةِ، هُوَ أَعْظَمُ عِمَارَةٍ يَتْرُكُهَا الإِنْسَانُ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا الفَانِيَةِ.
أَنْ لَا نَخْذُلَ أَحَدًا عَمْدًا، أَنْ نُبْقِيَ أَبْوَابَنا مَفْتُوحَةً لِكُلِّ قَادِمٍ، وَأَنْ نَمْنَحَ لَحْظَةً مِنْ وَقْتِنَا فَنَسْتَمَعُ حَرفًا مِنْ كَلِمَاتِهِ فَقَد تَكونُ أَرْهَقَتْهُ الطَّرِيقُ؛ فَإنَّ ذَلِكَ عِبَادَةً نَدِيَّةً، وَحَسَنَةً خَفِيَّةً.
هُنَاكَ مَنْ لَا يَرْجُو مِنّا إِلَّا نَظْرَةً حَانِيَةً أَوْ كَلِمَةً صَادِقَةً تُعِيدُ إِلَيْهِ شَيْئًا مِنِ اتِّزَانِهِ، وَهُنَاكَ مَنْ يَحْتَاجُ إِلَى دِفْءِ الرُّوحِ، بِاحْتِضَانِهِ، أَكْثَرَ مِنْ حَاجَتِهِ إِلَى غِذَاءِ جَسَدِهِ بِإطْعَامِهِ.
غَيْرَ أَنَّ فِي الإِحْسَانِ حِكْمَةً؛ فَلَا نُكْثِر مِنَ الشَّكْوَى فَذَلِك يُثْقِلُ كَاهِلَ أَحَدِنَا، وَلَا نَتْرُك مَشَاعِرَ غَيْرِنَا تُحَتِّمُ عَلَيْنَا أَعْبَاءً تُضْنِينَا. فَلْنُذَكِّرِ الشَّاكِي بِرِفْقٍ أَنَّ دَوَامَ الشَّكْوَى يُخَرِّبُ القُلُوبَ وَيُدَمِّرُ الصِّلَاتِ، وَأَنَّ الرَّجَاءَ بِاللهِ يَبْعَثُ القُوَّةَ وَيَطْرُدُ اليَأْسَ.
وَكَمَا نُحِبُّ أَنْ يَكُونَ النَّاسُ لَنَا عَوْنًا فِي أَزْمِنَةِ العُمُرِ الكَأْدَاءِ، لَا سِيَّمَا فِي بُؤْسِهَا وَضُرِّهَا، فَمِنَ الجَمِيلِ أَنْ نَكُونَ لَهُمْ فِي كُرُبَاتِهِمْ حُضُورًا نَافِعًا، وَسَنَدًا مُؤَثِّرًا، وَوُجُودًا فَاعِلًا.
وَلَا يَغْفَلُ المُحْسِنُ مِنَّا عَنْ أَهْلِهِ والأقْرَبينَ والإخْوَةِ المُخْلِصِين، فإنّهم كِرَامٌ أوْلى بِالبِرِّ، فَمِنْ بِرِّ الوَالِدَيْنِ بَرَكَةُ العَمَلِ وَزَكَاتُهُ، وَمِنْ صِلَةِ الأَرْحَامِ عَافِيَةُ العُمْرِ وَنَمَاؤه؛ إِنَّ الأُمَّهَاتِ وَالآبَاءَ، الإِخْوَةَ وَالأَخَوَاتِ، الزَّوْجَةَ وَالأَبْنَاءَ، الأَرْحَامَ، وَالرِّفَاقَ الخُلَّصَ، وَالمُؤْمِنِينَ الأَصْفِيَاءَ، جَمِيعُهُمْ يَنْتَمُونَ إِلَى نَسِيجِ الحُبِّ الَّذِي يَتَّصِلُ بِالسَّمَاءِ، مُهِمَّتُهُم الْإِلْفَةُ وَالطَّلَبُ ، وَمُهِمَّتُنَا الِاسْتِجَابَةُ وَالْعَطَاءُ، وَكَمْ تَتَبَدًّلُ الأدْوَارُ.
وَحَتَّى مَنْ يُقَدِّمُ لَنَا خِدْمَاتٍ صَغِيرَةً أوْ كَبِيرةً، يَحْمِلُ أَعبَاءَهَا، لَوْ تَأَمَّلْنَاهَا لَرَأَيْنَا فِيهَا نِعمَةً جَلِيَّةً عَظَيمَةً وَحَسَنةً بَيِّنَةً كَرِيمَةً. فَلْنُحْسِنْ إِلَيْهِمْ كَمَا أَحْسَنُوا إِلَيْنَا وَأَكْثَرَ، فَإِنَّهُم أهلُ فَضْلٍ وإحسانٍ، وَاللهُ يُحْسِنُ إِلَيْنَا جَمِيعًا، وَهُوَ الَّذِي يُضَاعِفُ الحَسَنَاتِ، وَهُوَ خَيْرُ المُحْسِنِينَ وأَكْرَمُ المُعطِينَ.
الحَسَنَاتُ الخَفِيَّةُ هِيَ تِلْكَ الَّتِي قَدْ تَخْفَى عَلى أَلْسِنَةِ النَّاسِ، وَلَكِنَّهَا تَتَّسِعُ فِي سِجِلَّاتِ السَّمَاءِ. هِيَ مَا نَرَاهُ ضَئِيلًا فِي الدُّنْيَا، وَلَكِنَّها تَزِنُ الجِبَالَ فِي الآخِرَةِ. إِنَّهَا خَفِيفَةٌ فِي الحُسْبَانِ، عَظِيمَةٌ فِي المِيزَانِ، يَعْلَمُهَا اللهُ، الَّذِي لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، يَجْزِي الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ، فَإِنَّ فَضْلَهُ لَا يَنْفَدُ، وَعَطَايَاهُ لَا تَنْقَطِعُ.
الحَسَنَاتُ الخَفِيَّةُ، يَا صَاحِ، هِيَ أَعْمَالٌ نَقِيَّةٌ كَنَسَائِمِ الهَوَاءِ النّقَيِّ فِي الصَّبَاحِ النَّدِيِّ، وَلَكِنَّهَا فِي مِيزَانِ اللهِ جَوَاهِرُ أَثْمَنُ مِمَّا يَكْنِزُهُ الكَانِزُونَ، وَأَعظَمُ مِمَّا يَسْتَكْبِرُ بِهِ عَلَيْنَا المَتَسَلِّطُونَ.
وَالْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
مع تَحِيّاتِي،
د.غَازِي مُنِير قَانْصُو
٢٦ كانون الأول ٢٠٢٤