مقالات

طرابلس الفيحاء… من بيت الداء إلى رأس كل دواء \ د. سمير حسن عاكوم \ المصدر موقع اللواء

طرابلس المدينة الثانية في لبنان، كانت في الماضي القريب مركزاً حضارياً يعجُّ بالمدارس والمكتبات، تزخر بأدبائها وعلمائها، غنية بتاريخها وتراثها وبموقعها الاستراتيجي… سُمّيت بالفيحاء ومدينة العلم والعلماء ومنارة الثقافات في الحقبتين العثمانية والفرنسيّة. لتتحوّل مع مرور الوقت إلى واحدة من أكثر المناطق فقراً وتهميشاً في لبنان والشرق، ليبدأ تلاشي ملامح مجدها الثقافي والعلمي، ولتُتهم من قبل مؤسسات إعلامية بالتعصب والتطرف وتلصق بها اتهامات ظالمة ومضللة. هذه التهم تعاكس حقيقة كيانيّة مدينة كانت هي الأرقى بين المدن العربية ومدن البحر المتوسط.
لا يمكن فهم هذا التناقض الصارخ إلّا من خلال المنظور البنيوي الذي يربط الواقع بالأحداث التي أوصلتها الى ما وصلت إليه، وما نتج عنها من تآكل في الكيان الفردي والجماعي. سنقوم باستعراض الجذور التاريخيّة لهذه الأحداث خلال قرن من الزمن انطلاقاً من نظام الإمتيازات الإستعماري وصولاً الى المرحلة الحاليّة، فهناك جذور كولونيالية للتمييز البنيوي في نظام هذه الإمتيازات تطوّر سلباً مع الوقت على الشكل التالي:
أولاً: الانتداب الفرنسي 1920- 1943 كمرحلة تأسيسية للاختلال البنيوي: لم تسعَ فرنسا التي فرضت انتدابها على لبنان لبناء دولة مدنية موحّدة، بل إلى تثبيت نموذج حكم يقوم على تفتيت المجتمع وتثبيت الامتيازات كما هو الحال في باقي مستعمراتها. انطلاقاً من عنوان حماية من كانت تسمّيهم «الطوائف الصديقة» عبر تشجيعهم على تولّي واحتكار مناصب الحكم والإدارة. وتقوم بإقصاء الأطراف حيث الأكثريّة المسلمة عن مراكز القرار السياسي والاقتصادي. وتثبيت إقامة مؤسسات الدولة على قاعدة التمثيل الطائفي والمناطقي لا الكفاءة والانتماء الوطني. فرّقت فرنسا المجتمع اللبناني عبر مؤسسات التعليم، القضاء، الوظيفة العامة. أنشأت مدارس نخبوية فرنكوفونية خاصة بالطوائف المسيحية، همّشت التعليم الرسمي والمهني في مناطق عكار والبقاع والجنوب، دعمت الزعامات الإقطاعية الطائفية وجعلتها الوسيط الحصري بينها وبين الشعب، مما أنتج تبعية سياسية بدلاً عن المشاركة الديمقراطية. مع تمييز اقتصادي فُرضت من خلاله بنية اقتصادية خدماتيّة، مصرفية، تجارية متمركزة في بيروت وجبل لبنان. تُرِكَت الأطراف بدون مشاريع تنمويّة، ليكون الحرمان الثقافي والتربوي هو التالي. فكل محاولات التنمية تتم عبر الطائفة لا الدولة. وهكذا، بدأ تأسيس «لبنان الكبير» على قاعدة الطائفة لا المواطنة والعدالة، فالامتيازات أداة استعمارية معروفة تضمن سيطرة فئة على حساب حرمان الأكثريّة.
ثانياً: استقلال ما بعد الانتداب… استمرار الهيمنة بوجه محلّي: بقي النظام الموروث من فرنسا بعد الاستقلال سارياً بوجوه محلية، وأخذت زعامات الوراثة الطائفية دور الحاكم بدل المندوب السامي. لم تتحوّل الدولة إلى دولة مواطنة (بإستثناء فترة الحكم الشهابي التي تلت ثورة 1958) بل إلى راعٍ للزبائنية والتمييز. والأخطر من ذلك، أن كل محاولات الإصلاح كانت تصطدم بـ«خط أحمر» طائفي مناطقي يحمي امتيازات زمن الانتداب. وعليه لم يغادرنا الانتداب فعلياً، بل زرع بذور نظام يقوّض أي مشروع وطني توحيدي. وكل ما نراه اليوم من انهيار اجتماعي، تهميش اقتصادي للأطراف، تفكك في الهوية الوطنية وصعود الطائفية السياسية هو في جوهره استمرار لبنية هندَسَها المستعمر لضمان السيطرة وتكفَّل النظام المحلي بإدامتها.
ثالثاً: تفكيك البنية الاقتصادية: تم تعطيل ركائز البنيّة الاقتصاديّة لطرابلس والشمال الستة والتي تضم:

  • إهراءات ومصانع مدخل طرابلس الجنوبي التي كانت تشكّل سلسلة إنتاج غذائي وصناعي على مستوى لبنان، هذا التعطيل يعني ضرب الوظائف والتدفقات الاقتصادية.
  • معرض رشيد كرامي الدولي: صرح عالمي مهمل، حُرِمَ من دوره التنموي والثقافي مما أضعف دور طرابلس في النشاط الاقتصادي اللبناني والعالمي.
  • مصفاة النفط: لم تُحَدّث أو تُستثمر منذ عقود، بينما كان يمكن أن تكون مصدر توظيف وتمويل أساسي للطبقات الفقيرة.
  • المرفأ ومطار القليعات: تجاهل الدولة المركزيّة لهذه المرافق أفقد المدينة والشمال دورهما كبوابة اقتصادية للبنان والمنطقة.
  • الآثار الغنية والمعالم التراثية: من قلعة طرابلس، المدينة المملوكيّة، آثار الحضارات المتعاقبة، جزر طرابلس… تُهمل عمداً في حين أن المدن السياحية الأخرى في لبنان تُمَكّن ثقافياً واقتصادياً من هذا الإرث.
    هذا التفكيك حَوَل ثروة القوى العاملة في التبانة، القبة، الأسواق القديمة… الى عبء تجمعات عاطلين عن العمل فاقدي الأمل بالمستقبل وبعيدين كل البُعد عن هدير نخوتهم المعروفة.
    رابعاً: خروج رأس المال الطرابلسي الى خارج المدينة: في الوقت الذي تزحف فيه كل القوى الإنتاجيّة العالميّة بإتجاه مكان وجود اليد العاملة، فَضَلَ كبار أثرياء طرابلس تدوير ثرواتهم خارج مدينتهم سواء في بيروت أو الخليج… مما عمّق الهوة الطبقية وزاد من تجذّر التبعية الإجتماعية. باتت الزبائنية السياسية والمساعدات الموسمية بديلاً عن السياسات العامة. ففي مواسم الانتخابات يشتري السياسيون الأثرياء «صوتاً مقابل كرامة»، ليساهموا عن قصد أو عن غير قصد في تفريغ المدينة من رأسمالها الإنساني والاقتصادي. وفقاً لنظرية البناء الاجتماعي حين تُعطَّل الوظائف الاجتماعية للمؤسسات الاقتصاديّة، الثقافية، التعليميّة وتُضَيّع رموزها تفقد الطبقات الشعبية الحس بالمبادرة وتتراجع قدرتها على المقاومة أو التنظيم الذاتي، يتحوّل الفقر إلى حالة كيانية تتسبب بفقدان الشعور بالجدوى، وبالتالي تحقق التبعية الكاملة للمُمَوّل أو الزعيم، وصولاً لانتخاب من يكرّس التهميش من باب الحاجة لا القناعة وتُحَوّل المدينة إلى مسرح لصراعات الآخرين بعيداً عن مشروعها الذاتي.
    خامساً: مساهمة تحالف الميليشيات المرتبطة بنظام الأسد مع شبكات الزبائنية السياسية في الداخل اللبناني في تفكيك نسيج طرابلس الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، من خلال تدخلات أجهزة الأمن السورية لتفخيخ المجتمع، فحرب باب التبانة – جبل محسن لم تكن مجرد اشتباكات أهلية، بل ترسيخ تقسيم مناطقي. حوّل نظام الأسد وأدواته المحليّة الأحياء المتداخلة والمتآلفة تاريخياً إلى خطوط تماس والأهالي إلى رهائن صراع يدمرهم. ساهم زرع شبكات استخباراتية سورية – لبنانية في خلق مناخ خوف وشك دائم، أدّت إلى تفكيك المجتمع عبر زعزعة ثقة الجار بجاره والمواطن بالمواطن الآخر، وصولاً الى تصدير الأزمات السورية إلى الداخل اللبناني فإما يُجند الشباب للقتال أو يُتركوا فريسة المخدرات والسلاح!
    سادساً: نظام محاصصة المال والسلاح: انقلبت ميليشيات الإتفاق الثلاثي على اتفاق الطائف والدستور وأبعدت رجالات الدولة الحقيقيون، أسّست نظام «المحاصصة الطائفية»، هو نموذج يقوم على تدمير بنيّة المؤسسات الديمقراطيّة والإداريّة للدولة، وعلى الإستثمار بالفساد عبر توزيع للسلطة قائم على الانتماء للزعيم. تقاسمت مقدرات الدولة وفق نفوذ قوى الأمر الواقع لا على أساس الحاجة التنموية. خلق هذا النموذج بيروقراطية طائفية مشلولة واقتصاداً سياسياً زبائنياً تابعاً، مواطناً منغلق يشعر بأنه فرد في طائفة لا مواطن في دولة. بقيت المشاريع محصورة في بيروت وجبل لبنان، وهكذا أصبحت الأطراف مجرد مستودعات للفقر، للبطالة ولتهجير الكفاءات، مما سمح للتيار الإيراني بالسيطرة الكاملة على البيئة الشيعيّة وسيطرة جزئيّة على بقيّة المناطق بما فيها طرابلس والشمال بما يتجاوز ما قامت به المنظمات الفلسطينيّة قبله…
    بدل إنقاذ مدينتهم، انضم سياسيو طرابلس الأغنياء الى سلطة أمر واقع تحالف ميليشيات المال والسلاح، أتقنوا اللعب على توازنات تمويل مجموعات عسكرية صغيرة بزعم الحماية، دعموا زعامات شعبية سيطرت على الأزقة. استخدموا الفقر كأداة انتخابية، ليشتروا «الولاء» مقابل الوظيفة، هذا ما أنتج ثقافة التبعية بدل الريادة، جُزُراً اجتماعية منعزلة بعيدة عن تراثها وحضارتها بدل البنية المدنية الجامعة، واقتصاداً غير منتج… وصولاً الى مرحلة قوارب الموت أثناء هروب أبناء المدينة من ظلاميّة واقعهم عبر أهوال البحر الى قبرص وأوروبا.
    هذه النقاط الستة تؤكد أن ما حصل في طرابلس ليس مجرد «إهمال تنموي» بل هو جريمة مشروع متكامل هدفت الى تفكيك كامل لمجتمع كان بإمكانه أن يكون نواة محور حضاري لكل لبنان. فُكِّكَت المدينة أمنياً، ثقافياً، واقتصادياً، وأُعيد تشكيلها كـ«خزان انتخابي فقير» لا كمجتمع نابض.
    من منظور نظرية البناء الاجتماعي ما حصل هو تفكيك بنيّة المؤسسات الإجتماعيّة من المدرسة، النقابة، الحزب، الجمعية، المؤسسات الماليّة والاقتصاديّة والتراثيّة… لتصبح طرابلس تعاني من فجوة كبيرة بين عالمين طرابلس المتمسّكة بغنى تراثها الهائل وطرابلس التي أفقدتها تراكمات القرن الماضي كيانيتها، وبالتالي فهي فارغة من دورها التكويني التاريخي المميز بعد أن أُفقِدَت المدينة رأس مالها الرمزي. فالفيحاء التي كانت تفتخر بعلمائها ومثقفيها، أصبح يعلو في أزقتها الفقيرة اليوم صوت الفقر والسلاح المتفلّت المموّل والمظلومية والضياع… هذا ما ساهم في سقوط نسبة كبيرة من الإحساس بالانتماء وهو أخطر ما يمكن أن يحصل.
    نعم، هناك دَفْع مُمَوّل للطرابلسي ليشعر أنه غريب في مدينته محاصر في جغرافيته وديمغرافيته بلا أمل.
    ولكن… بعد هذا الإستعراض الملخص للمراحل الستة التي دمّرت البنيّة الإجتماعيّة والاقتصاديّة والإنسانيّة لطرابلس وأوصلت بلدنا وكل طوائفه الى مرحلة الإفلاس الكامل على كل المستويات وفقدان الأمل بالمستقبل، يحق لكل غيور على المصلحة الوطنيّة أن يراجع المرحلة الماضيّة بموضوعيّة ونقد ذاتي نحتاجه جميعاً ويسأل، كيف يمكن لطرابلس الفيحاء أن تتجاوز جراحاتها العميقة ومظلوميتها المزمنة لتتولي مهمة قيادة مشروع بناء الدولة الدستوريّة لتحقيق الإزدهار والأمان لكل لبنان؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى