
صندوق النقد في بيروت ..(الجزء الثاني). كتب: غسّان حلواني
يطالب صندوق النقد بإصلاحات هيكلية لضمان استدامة الاقتصاد واستعادة ثقة المستثمرين والمجتمع الدولي ، فهو يريد إعادة هيكلة القطاع المصرفي، و تحديد خسائر المصارف وتحميلها بشكل عادل بين المصارف، الدولة، والمودعين الكبار، وإعادة رسملة البنوك لضمان قدرتها على العمل وفق المعايير الدولية.
في مكان ما تبدو طلبات الصندوق نصف منطقية، لاسيما في موضوع إصلاح المالية العامة، عبر خفض العجز المالي من خلال ضبط الإنفاق وزيادة الإيرادات، وإلغاء الدعم العشوائي وتوجيهه لمستحقيه فقط، (فمن سيحدد ووفق أي معايير) فرفع الدعم الكامل عن السلع الأساسية أدى إلى ارتفاع أسعار الوقود، الأدوية، والمواد الغذائية، ما زاد من الضغط على الفئات الفقيرة والطبقة المتوسطة.رفع الدعم بالكامل قد يؤدي إلى ارتفاع جنوني في الأسعار، ما قد يشعل احتجاجات واسعة. وإصلاح قطاع الكهرباء كأحد أكبر مصادر العجز المالي و الهدر و السمسرات و السرقات . إنّ هذا الأمر لا يمكن أن يحدث إلا من خلال إقرار قوانين إصلاحية مثل قانون “الكابيتل كونترول”، وإصدارأو تعديل قانون السرية المصرفية لزيادة الشفافية والمحاسبة. و هذا لا يمكن ان يتحقق إلا بخطة واضحة لإعادة هيكلة الدين العام. وإلا سوف نكون في ورشة ولّادة للنصوص القانونية بلا طائل. و لعل الصندوق مخطىء في طلب إنهاء تعدد أسعار الصرف و التحول الى سعر موحّد يحدده السوق. فتحرير الليرة اللبنانية بالكامل سيؤدي إلى انهيار إضافي في قيمة الليرة، ما يزيد من أسعار السلع المستوردة ويضعف القدرة الشرائية للناس .فتصوروا حدوث ذلك في ظل غياب شبكة أمان اجتماعي قوية.
بكل أسف، و بالوضع الحالي في بلد مثل لبنان، يعتبر السير بتعزيز الشفافية والمحاسبة و مكافحة الفساد واسترداد الأموال المنهوبة إضافة الى تدقيق جنائي في مصرف لبنان والمؤسسات الحكومية ، كالسير في حقل ألغام، أو محاولة إضرام النار في الهشيم، فمجرد الحديث بجدية حول هذه المواضيع يعتبر من المحرمات التي من شأنها فتح شلالات دم لبوسها طائفي و زبائني، في كل لبنان. وأنا على ثقة أننا لا نرى من جبل الفساد إلا رأسه و ما خفي أعظم.
إنّ لبنان يسعى إلى الحصول على تمويل عاجل للخروج من الأزمة، قرض بين 3 إلى 10 مليارات دولار لدعم الاقتصاد واستقرار العملة. و لكن مضمون “الشحادة” تحت أي مسمّى كان، قرض ، هبة ، مؤتمر دعم ، او كان باريس 10 أو سيدر 5000 يبقى شحادة.
أيها السّادة نحن في لبنان بحاجة الى إستعادة ثقة المستثمرين، على قاعدة (Win-Win) ، يربح فيها البلد ، و يربح فيها المستثمر من دون لا أتاوآت ولا خوات و لا سمسرات و لا عربدات مالية. و إذا كان لبنان يعتبر أنّ تخفيف القيود على المصارف من شأنه المساعدة في إعادة تشغيل القطاع المصرفي بطريقة تحمي المودعين وتمنع الانهيار الكامل ، فليبهرنا المشترع اللبناني و القضاء و الضابطة العدلية بنصوص و ممارسات من شأنها أن تثلج صدور المودعين من هذه الناحية. لبنان يبدو محقاً في طلب المرونة في تنفيذ الإصلاحات وذلك لتجنب فرض شروط قاسية قد تؤدي إلى اضطرابات اجتماعية. ولا بد من الحصول على فترة سماح قبل تنفيذ بعض الإجراءات الصعبة مثل رفع الضرائب ووقف الدعم.
إن عقبات الإصلاح ستقف في وجه كل مصلح في بداية الأمر، و يسود الإعتقاد لدى اللبنانيين حدّ اليقين أنّ الطبقة السياسية غير جادة في تنفيذ الإصلاحات، خوفًا من فقدان الامتيازات. بمعنى لا يوجد إرادة سياسية لتنفيذ الإصلاحات المطلوبة مثل التدقيق الجنائي وقوانين الشفافية. و هناك مخاوف من أن تؤدي بعض الإجراءات إلى تفجير اجتماعي في ظل الفقر المتزايد.
صندوق النقد يريد إصلاحات جذرية لضمان إستعادة ديونه وعدم تكرار الأزمة، بينما لبنان يريد أموالًا سريعة لتخفيف الأزمة دون التزام صارم بالإصلاحات. المعضلة تكمن في قدرة لبنان على تنفيذ المطلوب مقابل الحصول على التمويل، وسط ضغوط سياسية واقتصادية واجتماعية معقدة.
صندوق النقد الدولي يريد إعادة هيكلة القطاع المصرفي وتحميل المودعين الكبار جزءا ً من الخسائر وهذا قد يضر أيضًا بصغار المودعين. و يريد استمرار القيود على سحب الودائع وتحويلها. و يريد فرض ضرائب جديدة لزيادة الإيرادات مثل الضريبة على القيمة المضافة VAT وضرائب الدخل. فماذا كانت نتيجة فرض رسوم على الواتساب عام 2019؟
صندوق النقد الدولي يريد من الحكومة تسريح موظفين من القطاع العام ووقف التوظيف لخفض الإنفاق، لأنه ينقصنا بطالة و مراكز وظائف شاغرة في هذا البلد . وصندوق النقد يطالب بإصلاح قطاع الكهرباء، وهذا يتضمن رفع التعرفة لتغطية الكلفة الحقيقية.
الإجراءات التي يطلبها صندوق النقد، رغم ضرورتها لإنقاذ الاقتصاد، قد تؤدي إلى انفجار اجتماعي إذا لم تترافق مع شبكة أمان اجتماعي قوية، مثل دعم الفئات الأكثر ضعفًا، تقديم مساعدات نقدية، وتأمين فرص عمل سريعة.
أيها السّادة، إنّ صندوق النقد الدولي، ليس صديقا ً ميسورا ً لأيّ منا، ندعوه الى العشاء في منازلنا، و نشكو له عسر الحال، فينتخي لإمدادنا بكل المساعدات المالية و المعنوية المتاحة بلا شروط بعدما يشعر بالسرور بتناوله “الكبّة النيّة و التبولة”. إنّ صندوق النقد الدولي يرانا أرقاماً كأي مراب يهودي،لا يفهم إلا بالأرقام و لا يتعامل إلا بالأرقام و لا يأخذ ضماناته إلا بالأرقام .