
غزّة في عيون العالم …كتب غسّان حلواني
في قلبِ العالمِ المُعاصر، تَتَجسَّدُ غَزَّةُ كَكُتلةِ نارٍ تَشتعلُ بِصَمتٍ وَصَخَبٍ مَزدَوَج، تَحملُ في طَيّاتِها أَسئلةَ الحُقوقِ المُهدورةِ وَالسِّياداتِ المُتصارِعة، وَتَتَّسِعُ لِتَحليلٍ يَخترِقُ السَّطحَ لِيَغوصَ في أَعماقِ التَّأويلاتِ السِّياسيةِ وَالثَّقافية. هُنا، حَيثُ تَتلاقى رُؤى الشَّرقِ بِغَربِه، تَبرُزُ الأَحداثُ كَمِرآةٍ عَاَكسةٍ لِأَزماتِ العَصر. صِراعُ الهَويَّاتِ، تَزاحُمُ الرِّواياتِ، وَصِدامُ الحُقوقِ بِالحُدود. فَفي وَجهَةِ النَّظرِ الغَربيةِ، تَتَشَكَّلُ غَزَّةُ كَمَسرحٍ لِسِيادةِ الدَّولةِ وَالأَمْنِ القَوميِّ، بَينَما تَتَحَوَّلُ في الرُّؤيةِ العَربيةِ إِلى رَمزٍ لِلصُّمودِ وَالمُقاوَمةِ ضِدَّ «آخِرِ حُقبِ الاِستِعمارِ». هَذا التَّباينُ لَيسَ مُجرَّدَ خِلافٍ سِياسيٍّ، بَل هُوَ اِصطِدامٌ بَينَ مَشَارِيقَ فِكريَّةٍ تَختَلِفُ في تَعريفِها لِلعَدالَةِ، الحُرّيةِ، وَحَتَّى الإِنْسَانِ نَفسِه.
مِن مَنظورِ العُلَماءِ الغَربيّينَ في عِلمِ الاجتِماعِ وَالسِّياسةِ، تَظهَرُ أَحداثُ غَزَّةَ كَحَلقَةٍ في سِلسِلَةِ «صِدامِ الحَضَاراتِ» الَّتي تَنَبَّأَ بِها «صَموئيل هَانتَنجتون»، حَيثُ تَختَزِلُ الصِّراعاتُ إِلى صِراعِ قِيمٍ غَيرِ قابِلٍ لِلتَّوَسُّط. فَبحَسَبِ «نُعوم تشُومسكي»، تَميلُ الوِلاياتُ المُتَّحِدةُ وَحُلَفاؤها إِلى تَبَنّي رِوايةٍ تَرَى في إِسرائيلَ دَولةً دِيمقراطيةً تَدافعُ عَن نَفسِها ضِدَّ «إِرهابٍ» مُعَقَّدٍ، مُستَندةً إِلى فَلسَفَةِ «الوَاقعيةِ السِّياسيةِ» الَّتي تُبرِّرُ اِستِخدامَ القُوَّةِ لِحِفظِ الأَمنِ. هَذا التَّحليلُ يَتَجَذَّرُ في فِكرِ «ماكس فيبر» عَن احتِكارِ العُنفِ الشَّرعيِّ، فَتُصبِحُ غَزَّةُ مِحورًا لِسُؤالِ «مَن يَملِكُ حَقَّ العُنفِ؟» وَمَن يَحميهِ القَانُونُ الدَّوليُّ.
عَلى الجَانِبِ الآخَرِ، يَنظُرُ العُلماءُ العَرَبُ وَالمُنتَسِبونَ إِلى مَدارِسِ ما بَعدَ الاِستِعمارِ، مِثلَ «إِدوارد سَعيد»، إِلى الأَحداثِ كَتجلٍّ لِـ «الاِستِشراقِ» المُعاصِرِ، حَيثُ يُعادُ تَشييدُ «الآخَرِ» كَكَائِنٍ عَنيفٍ بِلا حُقوق. فَـ «محمود ممداني» يُشيرُ إِلى أَنَّ تَصويرَ المُقاوَمةِ كـ «إِرهابٍ» هُوَ اِستِمرارٌ لِسِياقاتِ التَّبريرِ الكولونياليَّةِ. هُنا، تَتحَوَّلُ غَزَّةُ إِلى مَكانٍ لِـ «المُقاوَمةِ الوُجوديةِ» ضِدَّ الاِختِفاءِ الجُغرافيِّ وَالتَّاريخيِّ، كَما يَصِفُها «جوزيف مسعد»، حَيثُ تَرمُزُ كُلُّ قُنبُلةٍ إِلى صِراعِ الذَّاكِرَةِ مَعَ النِّسيانِ.
بَينَ هَاتَينِ الرُّؤيَتَينِ، تَبرُزُ أَسئِلَةٌ عَن دَورِ المُجتَمَعِ الدَّوليِّ: فَفي الوَقتِ الَّذي تَتَّهِمُ فيهِ الرِّوايةُ العَربيةُ الغَربَ بِالازدواجيةِ في تَطبيقِ القَوانينِ الدَّوليةِ (كَما يَذكُرُ «أنطونيوس سرغني»)، تُحاوِلُ الرِّوايةُ الغَربيةُ تَبريرَ سُكوتِها بِحُجَجِ الاِستِثناءِ الأَمنيِّ، كَما يُحلِّلُ «يورغن هابرماس» أَزمةَ الشَّرعيةِ في السِّياساتِ الغَربيةِ.
لَو أَمكَنَ لِغَزَّةَ أَن تَكتُبَ رِسالَةً إِلى العَالَمِ، لَرُبَّما قَالَت: «أَنا لَستُ جُغرافيةَ الحُروبِ فَقَط، بَل أَنا وَعيُكُمُ المُعلَّقُ بَينَ السَّماءِ وَالأَرض. فَكلُّ حَجَرٍ يُلقى عَلَيَّ هُوَ مِرآةٌ تَكشِفُ عَوراتِ التَّاريخِ، وَكُلُّ دَمعةٍ تَهطِلُ هُنا تَحمِلُ سُؤالًا لِمَن يَزعُمُونَ أَنَّ الحَضارةَ سِربالٌ يُغَطّي جُرُوحَ الإِنسانيةِ. لَيتَكُم تَرَوْنَني لَيسَ كُتلةَ نارٍ، بَل شُعلَةَ ضَوءٍ تُنيرُ طَريقًا وَحيدًا لِنِهايَةِ هَذا الصِّراع. أَن تَسمَعُوا صَوتِي دُونَ أَن تَخافُوا مِن أَن تَسمَعُوا صَوتَكُم أَنتُم فيهِ».
هَكَذا تَبقى غَزَّةُ، لَيسَت مُجرَّدَ أَرضٍ، بَل مَسرحًا لِأَعظَمِ مَأساةٍ إِنسانيةٍ.
تَكونُ الحَقيقةُ أَحيانًا بِلا لَونٍ، فَتَلوّنُها العُيونُ حَسبَ مَا تَشتهي القُلوبُ.