مقالات

أزمة القرار السياسي في تحقيق التنمية في لبنان بين الواقع والمرتجى: كتب غسّان حلواني

تحديات وحلول في ظل نظام المحاصصة الطائفي .
توضيح : قد يذهب البعض للإعتقاد أنني سأتحدث عن القرار السياسي الوطني اللبناني و أزمة الإرتهان للعوامل الأقليمية و الدولية ، لكنني أعني القرار السياسي الداخلي و مدى أرتباطه بكل الأزمات اللبنانية الداخلية .
لطالما شكّلت التنمية المستدامة في لبنان هدفًا بعيد المنال بسبب الأزمات السياسية المتعاقبة التي أثّرت بشكل مباشر على الإدارة العامة للدولة وعلى قدرتها في تنفيذ خطط تنموية فعالة. فعلى الرغم من وجود العديد من الخطط والاستراتيجيات، إلا أن غياب القرار السياسي الحاسم، وارتباط المصالح الاقتصادية والسياسية بمصالح ضيقة، شكّل عقبة رئيسية أمام تحقيق التنمية الشاملة والمستدامة. اليوم، يعيش لبنان حالة من الجمود التنموي، حيث تقف السياسة حائلًا بين الطموحات والواقع، وتُعرقل كافة الجهود الرامية إلى تحسين مستوى معيشة المواطن، وتحقيق العدالة الاجتماعية، والنهوض بالاقتصاد الوطني.
الواقع: أزمة القرار السياسي في التنمية
يعاني لبنان منذ عقود من أزمة قرار سياسي حقيقية جعلت من التنمية رهينة التجاذبات الطائفية والمصالح الفئوية الضيّقة. وتتجلّى هذه الأزمة في غياب الرؤية التنموية الشاملة،
فرغم كثرة الدراسات والخطط الاقتصادية، فإن لبنان يفتقر إلى رؤية تنموية واضحة تنطلق من مصالحه الوطنية بدلًا من المصالح الفئوية والحزبية. وغالبًا ما تُوضع الخطط الاقتصادية كنتيجة لضغوط دولية أو محلية، دون أن يكون هناك التزام فعلي بتنفيذها أو متابعتها. و تجرّ في ركابها هذه الأزمة ،ضعف الحوكمة وغياب الإرادة السياسية ،فالقرار السياسي في لبنان يرتبط بشبكة من المصالح التي تجعل من الإصلاحات والتنمية رهينة توافقات غير مستقرة. فالحكومات المتعاقبة تُظهر عجزًا واضحًا في اتخاذ قرارات جريئة بسبب التوازنات الطائفية والسياسية، ما يؤدي إلى تجميد مشاريع الإصلاح الأساسية مثل تحديث البنية التحتية، وتحسين التعليم، وإصلاح قطاع الكهرباء، وتطوير القطاعات الإنتاجية.ويُعد الفساد من أكبر العوائق أمام التنمية في لبنان، حيث تتحكم قوى سياسية في المؤسسات العامة وتحولها إلى أدوات لتحقيق مصالحها الخاصة. وبدلًا من توجيه الموارد نحو التنمية، تُهدر الأموال في مشاريع وهمية أو غير مكتملة بسبب سوء الإدارة والمحسوبيات.
إنّ الاستقرار السياسي عامل أساسي لتحقيق التنمية، لكن لبنان عانى من اضطرابات سياسية متكررة، من اغتيالات وأزمات حكومية وحروب داخلية وخارجية، مما جعل من الصعب على أي حكومة تنفيذ خطط طويلة الأمد.
و كذلك تراكم الديون والعجز المالي في لبنان أثّرا سلبًا على قدرة الدولة على تمويل المشاريع التنموية، فبدلًا من تخصيص الموارد للاستثمار في قطاعات حيوية مثل الصحة والتعليم، يتمّ إنفاق معظم الإيرادات على خدمة الدين العام، ما يعرقل أي فرصة لتحقيق تقدم حقيقي.
المرتجى: سبل تجاوز الأزمة وتحقيق التنمية
إن الخروج من أزمة القرار السياسي وتحقيق التنمية المستدامة في لبنان يتطلب خطوات جذرية وشاملة على مختلف الأصعدة، كتفعيل دولة القانون والمؤسسات، فلا يمكن تحقيق أي تنمية حقيقية دون وجود مؤسسات قوية وفعّالة قادرة على فرض القانون بعيدًا عن التدخلات السياسية. و يجب العمل على إعادة بناء ثقة المواطن بالدولة عبر تفعيل دور القضاء المستقل، وإصلاح الإدارات العامة لتصبح أكثر كفاءة وشفافية.
يحتاج لبنان إلى خطة تنموية طويلة الأمد تتضمن إصلاحات اقتصادية جدية ، تهدف إلى تحفيز القطاعات الإنتاجية ، مثل الصناعة والزراعة والسياحة، بدلًا من الاعتماد على الاقتصاد الريعي الذي أثبت فشله. ولا بد من تعزيز الشفافية في إدارة المال العام، والحد من التدخلات السياسية في المشاريع التنموية.

يتطلب تحقيق التنمية وجود بيئة سياسية مستقرة، وهذا لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال الحدّ من التوترات الطائفية والسياسية، وتعزيز ثقافة الحوار والشراكة الوطنية بدلًا من المحاصصة والمناكفات السياسية.
ولا يمكن تحقيق تنمية مستدامة دون وجود استثمارات تدعم الاقتصاد الوطني. لذا، يجب العمل على توفير بيئة استثمارية ملائمة عبر تقديم حوافز للمستثمرين، وتحديث القوانين الاقتصادية، وضمان استقرار النظام المصرفي.
في زمن التوجه العالمي نحو اقتصاد المعرفة ، يبرز التعليم كأساس لأي عملية تنموية ناجحة. و يحتاج لبنان إلى إعادة هيكلة نظامه التعليمي بما يتلاءم مع متطلبات سوق العمل، وتعزيز البحث العلمي، ودعم الابتكار وريادة الأعمال، مما يسمح للشباب بالمساهمة في نهضة البلاد بدلًا من الهجرة بحثًا عن فرص عمل.
لا يمكن تحقيق أي تنمية من دون بنية تحتية حديثة. يجب وضع خطة شاملة لإصلاح قطاع الكهرباء، وشبكات الطرق والمياه، والاتصالات، بما ينعكس إيجابيًا على الإنتاجية ويخفف من الأعباء على المواطنين.
إنّ كل ما تقدم في المرتجى لا يمكن تحقيقه إلا بقرار سياسي موحدّ بين المؤسسات الرئيسية في الدولة ، لاسيما السلطة التنفيذية على وجه الخصوص ، و هذا بطبيعة الحال لا يوفره الظرف الحالي القائم على المحاصصة و الكيدية السياسية ، و كم من مشروع تنموي نهضوي ذو منفعة عامة ، لا يزال رهين هذه الكيدية ، و كم من فرصة لجعل لبنان رافعة إقتصادية أقليمية ممنوعة من الولادة .
إن أزمة القرار السياسي في تحقيق التنمية في لبنان ليست أزمة آنية، بل هي نتيجة تراكمات طويلة من سوء الإدارة، والفساد، والتجاذبات السياسية التي حوّلت البلاد إلى ساحة صراعات بدلًا من أن تكون نموذجًا للاستقرار والتطور. ومع ذلك، لا يزال الأمل قائمًا إذا ما توفرت الإرادة السياسية الحقيقية لإجراء إصلاحات جذرية تعيد وضع لبنان على مسار التنمية المستدامة. فالطريق إلى التنمية ليس مستحيلًا، لكنه يحتاج إلى قرارات شجاعة تتخطى الحسابات الضيقة، وتضع مصلحة الوطن والمواطن فوق كل اعتبار
إن البلد لا يدار و لا ينمو بمنطق (شو ألكن و شو ألنا).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى